الرئيسية » » صفحات من رواية " حكاية عابد الشاكر" 7 | عواطف الزين

صفحات من رواية " حكاية عابد الشاكر" 7 | عواطف الزين

Written By هشام الصباحي on السبت، 20 يونيو 2015 | 9:26 ص

اصبح لدينا منزلا في بيروت ،عبرنا من خلاله نحو حياتنا الجديدة ،بسرعة قياسية ،كانت ليلتنا الاولى  داخل الغرفة ،ذات السلم الخشبي، اشبه بحلم متقطع، تفاصيله كثيرة غير مفهومة، تشبه بكاء اخي الرضيع في اوقات غير مناسبة،  حيث يشق بكاؤه صمت الليل المستسلم لايقاع المطر، الذي عاد بقوة ،صادما اسماعنا بإيقاعاته الصاخبة،  بينما ينساب صوت امي الناعس، بحداء حنون ليساعده  على النوم ،ويمنحني الشعور بالآمان ، في  غياب  ابي حتى ساعة متأخرة من الليل .
..  في احدى غفواتي القصيرة  صحوت على ايقاع خطوات قرب فراشي ..وبقيت مستيقظة   لاعرف ما يجري  حولي..  لم اجد امامي سوى الجدار الذي يعكس ضوءا ضعيفا، متسربا من النافذة، يشكل ملامح وجوه، تتحرك في اكثر من اتجاه ،على ايقاع انفاس خافتة، قد تكون لاخي "عامر" الذي جاء مع ابي اثناء احدى تلك الإغفاءات ..واظل شاخصة الى كل ما تعكسه تلك المساحة  امامي، غير مكترثة  بأصوات الرعد ،ولمعات البرق العابرين للمكان ،   حيث ينطفىء احدهما ويشتعل الآخر ، فتبدو غرفتنا المسكينة ،  معلقة بين الارض  ، والسماء .
***
في صباح اليوم التالي لم اجرؤ على مغادرة الغرفة، كنت اشعر بالخجل ،كأن العالم كله يتفرج علينا ونحن نخرج الواحد تلو الآخر، من ذلك المكان الذي يشبه كوخ فلاح صيني،  او غرفة مؤونة   منسية ..او مخزن مخلفات مهجور  ،بينما تبدو الغرفة المقابلة لها كبيرة ورحبة،  كانت امي قد جلست على عتبتها  لحظة وصولنا لترضع هادي ..وتساءلت  بصوت هامس، كأنها تحاكي نفسها "--لماذا لا تكون هذه الغرفة من نصيبنا ؟  لكن  السؤال ظل
 ،  
معلقا من دون اجابة ولم تنفع حشريتي المشاغبة في معرفة ساكني الغرفة او ملامح وجوههم  ليبقى الوضع على ما هو عليه مما جعلنا نتآلف   مع غرفتنا الضيقة ،التي اتسعت لاغراض كثيرة،و لعدد من الصديقات،  اللاتي تعرفت اليهن، " امي .. واصبح بيتنا يكبر بنا  ونكبر بما فيه ، من اشخاص، واحداث واشياء  ومنذ ان بدأت  روائح الطعام الشهية تفوح من نافذه مطبخنا ، المتواضع  ازداد عدد الجارات  واصبح البعض  منهن ضمن اصبوحاتنا، وامسياتنا وسهراتنا الطويلة ،واضحى المكان محببا إلي اكثر،   .لكنني  افتقد  مدرستي ،واحن الى رفيقاتي واساتذتي والى مديرها،سليمان  الذي تربطه  بأسرتي علاقات  متينة "ومع ذلك  كان يردد عل مسمعي كل صباح جملته المفضلة "هالراس بدو يتكسر يا هناء ".ولكن ذلك لم يحدث  ، ..فقد كان حريصا على عودتي الى المدرسة، في كل مرة كنت اتغيب فيها يرسل الى ابي مستفسرا عن سبب غيابي، وفي احدى المرات،  حدث اشكال بيني وبين احدى زميلاتي
مما دفع استاذ "الانجليزي "الى ضربنا معا لكنني وقعت على الارض من شدة الضربة فأسرع عامر وابلغ ابي بما حدث ..وتطور الامر بيننا وبين ادارة المدرسة بعد ان قام اخي راضي برشقها  بالحجارة  احتجاجا  .. وانقطعنا عن الدراسة لمدة يومين جاءنا  بعدهما المدير سليمان   طالبا عودتنا  اليها.  

 
***
مع تعاقب الصباحات الماطرة
مد الحنين خيوطه نحوي واشعل الشوق الى قريتي نجمة الصبح  والحارة التحتا وبيتنا " بدأت الذكريات ترسم  تفاصيل النهارات الدافئة ،  ولياليها رغم  "الدلف"* المتنقل الذي يفسد علينا متعة الحياة فيه  "ولكن سرعان ما نألف الامر ونعتاد عليه  ونشعر بدفء الدنيا وحرارتها حول الموقد الذي يحتل احدى زواياه وزوايا قلوبنا..  لم المح في وجه امي ما يساند مشاعر الحنين  ،او يناقضها ،ولم اعد اسمع صدى ضحكاتها الموحية، التي كانت ترن في اذني، وفي قلبي ، كلما باغتها موقف من هنا او كلمة من هناك  ..كانت تبتدع ما يضحكها ويضحكنا ..لم يعد الامر كذلك الآن ، ما الذي يسكن امي ويشعل هواجسها ومما هي خائفة ؟ كانت هذه الاسئلة تشغلني  في غياب ابي اليومي الطويل عن البيت، حتى اصبحت لا اراه الا نادرا ،   كنت فقط التقط صوته ليلا في بعض الاحيان وهو يحادث امي هامسا ،عن شؤون يومه، وعمله الذي يتعثر، او يتحسن حسب الظروف ،ويخبرها عن محاولاته لضم بعض المساهمين اليه من المعارف ،اوالاقارب حتى يستطيع  الوقوف على قدميه، في مشروع تجاري صغير يضم انواعا متعددة من الخدمات  والمواد،التي لها علاقة بالبناء .اصبح في امكان ابي  بعد ذلك الحديث عن استئجار محل اخر الى جانب محله ليمارس مهنة الحلاقة، التي يتقنها  ليوسع مصادر رزقه  ،ويحقق جزءا من حلمه الكبير ،الذي انكسرمبكرا  في رحلته المتعثرة الى افريقيا،التي عاد منها مريضا بعد غياب ثلاث سنوات ،ليبدد ما كان قد جمعه فيها، على علاجه من الام عصبية ،في المعدة .
كنت استرق السمع  الى امي وابي كلما اتيح لي ذلك  من دون  ان احدث  حركة تكشف تنصتي  ،واكتم انفاسي حتى لا ابدو مستيقظة ،  وافسد  عليهما  خلوتهما الوحيدة التي يسمح لهما بها المكان، ولكن قد يكون الاستغراق في النوم بالنسبة الي ،هو احد الحلول الممكنة ليقول ابي ما يود لامي، لكن حشريتي كانت ناتجة عن رغبة  لأعرف   ما ستأتي به الايام  ؟وماذا عن مدرستي التي تركتها قبل ان انهي  السنة في صفي الابتدائي الثاني،  وحين اسر  ابي لامي في احدى الليالي بأنه سيرسل اخي "عامر"  للعمل في مكتب احد الاقارب ،شعرت بدموعي تنساب مني خلسة ،وتبلل مخدتي ،وتزيد من برودتها، وحزني!

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.