لا ينفكّ العالم يتّسع معكّراً مزاج الجميع
يعتبر شنتارو تانيكاوا الشاعر الأكثر شعبية في اليابان اليوم حيث تّحفظ قصائده عن ظهر قلب من قبل الصبيان والبنات في المدارس الابتدائية والثانوية.
تانيكاوا الذي ينظر إليه على أنه من أهم شعراء اليابان لما بعد الحرب العالمية الثانية ولد عام 1931 في طوكيو، وهو الابن الوحيد لفيلسوف ياباني وعازفة بيانو.
عافت نفسه المدرسة من البداية، فتمرد باستمرار على أساتذة المرحلة الثانوية، ولذا لم يفكر لاحقاً بدخول الجامعة. لدى بلوغه الثامنة عشرة كان قد بدأ بكتابة الشعر ونشرت له حينها المجلة الأدبية المتميّزة («العالم الأدبي») اليابانية العديد من القصائد وذلك تبعاً لإيعاز من تاتسيوجي ميوشي الذي كان يومها أحد أهم الشعراء وقد أعجب حينها بموهبته.
إتسم وصول تانيكاوا الى حالة الوعي الأولي مع هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية وقد وصف ذلك نثراً: «كنت لم أزل في المدرسة الابتدائية خلال الحرب العالمية الثانية. بعد الهزيمة دُمّرت كامل القيم التي كان يؤمن بها اليابانيون. كانت فترة ما يشبه الخواء بالنسبة إلينا، ولم يدر أحدنا بما يجب أن يؤمن به والحال هذه. العديد من أبناء جيلي الذي قصدوا الجامعة إنخرطوا في مختلف الحركات السياسية، لكني لم أنضم الى الجامعة ولذا بقيت منعزلاً عن النشاطات السياسية لأقراني».
مع بداية عمله الشعري ينضم تانيكاوا الى باقي الناس، بلا تاريخ ذي فائدة، ولا مستقبل ثابت، ليعيش في «حاضر من الصعوبة تشخيصه ـ وحيداً تحت سماء زرقاء».
مع تنامي موهبته وتعمقها، استخلص معضلته الخاصة كمواطن في يابان ما بعد الحرب، وكانت تلك معضلة الإنسان الحديث يومها. اتجه صوب تغيير «أنا» قصائده دون تكلف أو تشديد الى «أنا» عالمية أو كونية. وذلك نراه في قصيدته «عشب» حيث نراه قد تبنى «شكلاً إنسانياً». إنه يذهب الى ما وراء الوصف المادي ـ الفيزيائي ليخبرنا شيئاً عن الحالة الإنسانية العامة. تراه يكاد يحتفي بعزلته في الكون. ولكن العالم لا يتحول الى مكان للراحة إلا في قصائد الحب: «لذا شخصان يغرمان أحدهما بالآخر ليكونا دقيقين في الحب، يتعانقان داخل الصمت، وحينهما في الصمت تغدو السماء الزرقاء ودودة، الحجارة ودودة…» أبعد من ذلك يرى هذا الشاعر أن طرح أسئلة عن الذات وعن الكون هو معنى أن يكون الفرد بشرياً (قصيدة موزار*).
كما فعل عدد من الشعراء اليابانيين مع صحوة الحرب الكونية الثانية، وجد تانيكاوا أن الشعر الياباني التقليدي على قدر كبير من التقييد ومتخلف عن عصره، لذا نراه نأى عن قصيدة الهايكو ونحا صوب الشعر المرسل باحثاً عن محور وإيقاعات جديدة، وقيل عن شعره لفترة أن يتصف بأسلوب موسيقى الجاز. ولناحية الموضوع بلغ به الأمر أن يبحث عن «وعي عالمي أو كوني». مهما يكن يعتبر شعره نقطة التقاء ما بين الشرق والغرب.
تانيكاوا الذي أعطى أكثر من 60 ديوان شعر فضلاً من كتابة الأغاني، ونصوصاً سينمائية وإذاعية وتلفزيونية ومسرحيات للأطفال، نال أهم الجوائز الأدبية اليابانية. وشعره الذي ترجم الى خمس عشرة لغة، نالت ترجمة قصائده الى الإنكليزية «جائزة الكتاب الأميركي» لعام 1988.
نمو
في عمر الثالثة
لم يكن لي من ماض
في عمر الخامسة
رجع ماضي الى البارحة
في السابعة
عاد ماضي الى الساموراي الأعلى
في عمر الحادية عشرة
عاد ماضي الى الديناصورات
في الرابعة عشرة
توافق ماضي مع نصوص المدرسة
في عمر السادسة عشرة
أنظر الى لا نهائية ماضي بخوف
في الثانية عشرة
لم يعد لديّ أدنى معرفة بالزمن
سر
شخص ما يخبئ شيئاً ما.
لا أدري من. لا أدري ما الشيء
لو عرفت ذلك لعلمت كل شيء.
أحبس أنفاسي وأصغي.
يضرب المطر الأرض متسارعاً.
لا بد أنه يخبئ شيئاً.
يتساقط المطر ليتيح لنا معرفة سرّه
لكني لا أتمكن من سبر شيفرته.
أتسلل الى المطبخ، أحدّق حولي
وأرى ظهر والدتي.
لا بد أنها بدورها تخبئ شيئاً.
مشغله بشؤونها فيما
تبشر فجلة.
أنا حقاً فضولي بخصوص الأسرار
بيد أن لا أحد يخبرني بشيء.
حين أنظر الى الثقب الذي في قلبي
كل ما أراه هو سماء الليل الضبابية.
عشرون مليار سنة ضوئية من العزلة
موجود على كوكب صغير
ينام الجنس البشري، يستيقظ، ويعمل
متمنياً أحياناً صداقة مع المريخ.
بوجودهم على كوكب صغير
الأرجح أن أهل المريخ يقومون بشيء ما؛ لا أدري ما هو
(ربما يمارسون النوم، يمارسون ارتداء الملابس، يمارسون القلق)
متمنين أحياناً صداقة مع الأرض
وهذه حقيقة أنا متأكد منها.
هذا الشيء المسمى الجاذبية الكونية
هو قوة العزلة تروم الجمع.
أصاب التشويه الكون
لذا الكل يودّون الالتقاء بقوة
لا ينفك الكون عن التوسع
لذا يصاب الجميع بعدم الارتياح.
إزاء عزلة العشرين مليار سنة ضوئية
التي مضت دون تفكير، عطست.
عشب
وهكذا، قادماً ذات يوم
من مكان ما،
أجدني أتوقف فجأة على العشب،
ولأن ذاكرتي الخلوية اشارت
الى عمل غير منجز
لذا صار لدي شكل بشري،
وتحدثت حتى عن السعادة.
سونيته 30
لن أدع الكلمات ترتاح،
هي تشعر أحياناً بالخجل من نفسها
وتروم الموت، في داخلي.
حين يحدث ذلك، أكون في حالة حب.
في عالم لا يمكن ان يكون إلا صامتاً
الناس ـ وحدهم الناس ـ يثرثرون.
وأبعد من ذلك، الشمس والاشجار والسحاب
تكون غير ملمة بجمالها.
طائرة سريعة تسعى وراء الوله الانساني
مع ان السماء الزرقاء تتظاهر بأنها خلفية المسرح،
واقعاً ليس من شيء هناك.
حين أنادي بصوت وجل
لا يجيبني العالم.
كلماتي لا تختلف عن كلام العصافير.
السونيتة 54
غدوت دون قصد منفصلاً
عن العالم الذي ولدت فيه
ولم يعد بمقدوري السير من جديد
بين اشياء الارض.
ندرك انه حتى الحب هو امتلاك
لكن ليس بوسعنا سوى
الاستمرار في الصلاة لكي تستمر الحياة،
متقبلين تواضع صلواتنا.
لا يمكنني امتلاك شيء
مع انني أحب
الاشجار والسحاب والناس.
بمقدوري فقط نبذ
فؤادي الطافح ـ
متردداً في تسمية ذلك فعل حب.
أبي
أبي يتناول طعامه الآن، محدقاً الى الامام مباشرة.
ناظراً صوب لا أحد.
أخي الجالس بعيداً يقول له
أن نظارتيه غشيهما بخار الارز.
يجيبه أجل ويمسحهما بكمه.
لست أكيداً مما يدور في ذهنه
لكني لست أكيداً انه يفكر بي،
أو بأخي أو حتى بأمي.
إذا حدث وسألته بما يفكر
يرد باقتضاب، «لا شيء بالتحديد».
ذات مرة شاهدت صورة لوالدي وهو بعد صبياً.
كان واقفاً وسط حقل فسيح
نصف مغمض العينين من الشمس.
لم يزل يلازمه هذا المحيا أحياناً.
تراه يقبض على قطعة بطاطا حلوة بقوة مستعملاً عودي الاكل.
يظهر سن ذهبي حين يفتح فمه.
أبي، أتمنى ان تعيش طويلاً.
حديقة الحيوانات
مغمورة بأشعة الشمس المتسربة عبر مصفاة الشجر،
تستقل صغيرتي «القطار القرد»
وحين تدنو أشعر بالسعادة
وبالحزن حين تبتعد
وكل دورة ثالثة أخفق في الضغط على المصراع.
ثمة العديد من العائلات مثلنا هنا
لا أشعر اني أكثر سعادة منهم
لا أشعر اني أقل سعادة منهم
بيد ان مزاجي يتعكر شيئاً فشيئاً.
يرفع الفيل وينخفض خرطومه
يتابع التمساح العيش بهدوء
فيما الغزال يقفز
أي نوع من الحيوان يمكن ان أسمى أنا؟
طابة خيطان الصوف
ممتلئة، متماسكة وخفيفة كالريش
تتدحرج فرحة
نزولاً في الشارع
طابة غزل
ثم تلتف عند الزاوية.
ليس معها خريطة، وبلا قنينة حافظة لحرارة الشاي،
عائفة التقطيب والحياكة،
عبرت الجسر
وتخطت مخفر الشرطة
والآن تلتف عند زاوية أخرى.
قبل سنوات ثلاث
كانت هذه الطابة تشكل الاصابع الخمس
لقفاز محبب.