الرئيسية » » الرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت السمّاح عبد الله

الرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت السمّاح عبد الله

Written By هشام الصباحي on السبت، 20 سبتمبر 2014 | 5:32 ص

الرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت

السمّاح عبد الله

كان الجو باردا، وكنت أفرك يديّ استجلابا للدفء في شارع الجرجاوية العريض في سوهاج والذي تتفرع منه شوارع جانبية صغيرة متعددة، ما أن أبتديء في المرور من أمامها حتى يلفحني تيار هواء ساقع يُحَمِّرُ أذنييّ، وما أن أنتهي من المرور أمامها حتى يفاجئني شارعٌ آخر يُسَرِّبُ البرد من فتحات ملابسي إلى سائر أرجاء جسدي الغض فأشعر بقشعريرة تنتفض لها كل حجرات القلب، كان الشارع طويلا لا يريد أن ينتهي، وكنت أفكر: لماذا يقع بيتنا في أطراف المدينة؟، وما كان ضر أبي لو انه اختار سكنا في هذا الشارع الذي لا يريد أن ينتهي؟، في هذه الأثناء لمحته لأول مرة، كان شيخا كبيرا محني الظهر يتعكز على عصًا لم تكن غير فرع شجرة معوج، كانت خطواته بطيئة جدا حتى ليُخَيَّل لك أنه واقف، بل إن ثمة اهتزازا يعتري جسده كلما هم بتحريك إحدى رجليه يجعله أحيانا كثيرة يرجع إلى الوراء بدلا من التقدم للأمام، فإذا ما خطا خطوتين للأمام يعود خطوة للوراء، وكان جلبابه الأزرق الباهت خفيفا جدا وممتلئا بالفتحات وفي كثير من قماشته ثقوب ورقع غير تامة التخييط، وأزرار جلبابه واقعة من أماكنها حتى أن صدره كله مكشوف للتيار الثلجي، ولم يكن يبدو عليه الابتراد، هالني منظره، وفكرت كيف يحتمل هذا الشيخ الكبير شدة برودة شهر طوبة القاسية؟، ومتى يصل إلى بيته والساعة تجاوزت العاشرة مساء؟.

فيما بعد، وعلى فترات متباعدة وفي أكثر من مكان كنت أصادف الرجل ذا الجلباب الأزرق الباهت، أحيانا في السوق وأحيانا في أطراف المدينة وأحيانا على سطح قطار وأحيانا على سور الكوبري، وكنت أتساءل كيف يمشي على السور دون أن تنزلق قدمه المهتزة بطبيعتها؟ بل كيف يصعد ويهبط من السور أصلا؟، أما صعوده لسطح القطار فكان يمثل لي لغزا كبيرا، وأما أصدقائي فإنهم كانوا يصدقون هذه الروايات عنه بسهولة، بل إن كثيرا منهم كانوا يشاركون في روايتها، مؤكدين أنه ذو ملكات خاصة وقدرات ليست ممنوحة لنا نحن البشر العاديين، كانوا يؤكدون رؤيته وهو يطير في الجو، أحدهم أتى بشهود عدول ليأكد لنا أنه رآه يمشي على الماء، أحيانا كثيرة كنت أرى الشارع فارغا تماما ليس به أحد على الإطلاق، ثم تنشق الأرض عنه، أمامي مباشرة، بلا أي سبب منطقي، يمشي مشيته المرتبكة المعهودة، أواصل خطوي وأعود لألتفلت إليه، فأرى الشارع فارغا كما كان، وكأن الأرض لم تنشق عنه، أو كأنها انشقت مرة أخرى وابتلعته، لكني في أغلب الأحيان ، كنت كلما رأيته في شارع ما أتوقف لأراقبه وأتأمل حركاته واهتزازاته فلا أراه إلا رجلا هرما لا تقوى قدماه على حمله وكثير من العابرين كانوا يمدون له أيديهم ليعبروا به الطريق أو يتعكز عليهم، وكان كما رأيته أول مرة يتقدم للأمام خطوتين ويعود للخلف خطوة، حتى ليُهَيَّأ لرائيه أنه يستغرق اليوم كله من شروق الشمس لمغربها في الوصول لبيته الذي لم يفلح أحدٌ أبدا في معرفته، أو ان أحدا لم يهتم بالأمر.

...............................................

قال لي زميلي في المدرسة ونحن في الفسحة:

هل تريد أن ترى عجبا ؟

أجبته:

يا ليت.

قال:

قابلني إذن يوم الجمعة القادمة لنصلي العصر معا وبعد الصلاة نذهب إلى البيت وسترى ما يدهشك.

قادني إلى بلكونة حجرته، جلسنا على كرسيين متقابلين، وأثناء شرب الشاي سألني:

هل تعرف الضابط الذي يمر كل صباح بمدرستنا؟

أجبته:

وهل في في مدرستنا كلها من لا يعرفه؟

مد رأسه إلى خارج البلكونة متجها ببصره إلى بيت أمامه شجرة كبيرة يقف تحتها جنديان متسمران بملابسهما العسكرية وقال:

هذا هو بيته.

لم أندهش لأنني كنت أعرف، بل إن كل زملائي في المدرسة يعرفون أنه بيته، فقلت له:
وما الجديد في هذا الأمر، نعم أعرف، فهل هذا هو العجب الذي تريدني أن أراه؟.

لكنه أجاب بثقة:

العجب هو ما سيحدث أمامك الآن.

كان ضابط شارع المدرسة من الشخصيات المعروفة في منطقة المدرسة وأكثرها شهرة، كان صارما وحازما وذا تكشيرة لصيقة بوجهه، وإذا ما مر في شارع المدرسة فإن الشارع كله يقف على رجله، وعابروه يبدون وكأن على رءوسهم الطير، وكان راكبو الحمير يهبطون من على ظهور حميرهم ويتسمرون بجوارها حتى يمر، وكان مجرد ذكر اسمه كفيلا ببث الرعب في القلوب.

طوّف بنا الحديث تطوافا خفيفا حول المدرسين والطلاب وذكرنا مساوئهم ولم نتوقف كثيرا أمام حسناتهم، حتى التفت مضيفي إلى منتفضا وهو يصرخ قائلا:

انظر.

نظرت حيث أشار، فلقيت رجلا يرتدي جلبابا صعيديا ذا أكمام واسعة، ويتلفح بشال يميل إلى البني يغطي به صدره ورأسه ورقبته وذقنه وجزءا من أنفه ويغطي عينيه بنظارة سوداء، وسرعان ما مر بنا تحت البلكونة، ولما حدقت فيه تأكدت أنه الضابط، سألت زميلي:

لعله في مهمة سرية كالمهام التي توكل للضباط كما يحدث في أفلام السينما.

لكن زميلي أكد لي أنها ليست مهمة سرية ولا يحزنون، وإنما هو ذاهب للحضرة.

في مدينة سوهاج، كما في كثير من قرى الصعيد والوجه البحري تقام حلقات الذكر تقريبا على مدار العام، ولها مريدوها الذين يأتون إليها من القرى البعيدة، بل إن هناك من هو متفرغ لها تماما، فهو ينتهي من مولد سيدي عبد الرحيم القنائي في قنا، بعدها يبدأ في رحلته، ماشيا، إلى مولد سيدي السيد البدوي في طنطا، وفي الطريق يكون قد مر على عشرات الموالد المقامة على طول الوادي، فهو يعرف موعد انعقادها حضرة حضرة كما يعرف الفلاح المصري مواعيد الزرع والقلع اعتمادا على التواريخ المصرية القديمة، وهو في تطوافه لا يشغل باله بالمأكل والمشرب وفلوس المواصلات فكل شيء متاح في الحضرة وكل حاجة قرب أصابعه، أما هدفه الأكبر وفرحته التي لا تضاهيها فرحة أخرى، الوجود في الحضرة والاندياح التام في هزة الرأس يمينا وشمالا، حالة ربما لا يعرفها غير الصوفيين الذين تنعدم كل الموجودات من أمامهم لحظة وصولهم لنشوة الرؤية، فيهتفون من القلب:

الله حي.

...............................................

في الصيف الذي انتقلت فيه من الصف الثالث الإعدادي إلى الصف الأول الثانوي، ذهبت إلى مدينة البلينا جنوب سوهاج لقضاء يوم مع صديقي الزجال حمدان عبد اللطيف، رأيت تعاليق الكهرباء في أحد المساجد، ولما سألته عرفت أنها خاصة بمولد سيدي العارف بالله المحمدي، ظل صوت المزمار البلدي يأني إلينا طوال الليل متسربا من خلل الشبابيك، كان الصموت حنونا ودافئا وحزينا، تركت حمدان عبد اللطيف نائما وتسللت بالجلباب والشبشب إلى الخارج لأتسمع أكثر لأنين المزمار، وكنت كلما مشيت باتجاهه يزداد حزنه أكثر فيضرب قلبي، حتى وجدتني وجها لوجه أمام الحضرة.

كان ثمة صفان طويلان متوازيان متواجهان، وكان المنشد يقف في صدارة المشهد بينهما يغني والصفان يتمايلان في حركة إيقاعية متوافقة، وسَّعْتُ لي في منتصف أحد هذين الصفين مطرحا واصطففت معهم وتمايلت على إيقاع المزمار وترانيم المنشد:

و الله ما طلعت شمس ولا غربت إلا و حبك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالا منك في الكاسِ
ولو قدرت على الإتيان جئتكم سعيا على الوجه أو مشيا على الراسِ
ويا فتى الحي إن غنيت لي طربا فغنني أسفا من قلبك القاسي
ما لي وللناس كم يلحونني سفها ديني لنفسي و دين الناس للناسِ.

بعد فترة شعرت بدوار وبرغبة في القيء فتسللت وأنا أتسند على أيدي من يقابلني، ولقيتني أمام سيدة ورجلين، كانت تصب لهما الشاي، ظننتها تبيعه فطلبت منها كوبا فصبت لي وشربته، مددت لها يدي بقرش ونصف، فضمت على النقود أصابعي وقالت:

بالهنا يا ولدي نحن هنا كلنا في خدمة مولانا، ونظرت في اتجاه المسجد الذي بداخله مقام سيدي العارف بالله المحمدي، كان الشاي قد فعل فعله في دماغي فتيقظت واستعدت عافيتي ووجدتني أتجه صوب المقام.

حول المقام كان أناس كثيرون يقفون ويمسكون بالحديد المسوِّرِ بالمقام، يقولون له أشياء كثيرة، فاصطففت معهم وقلت له أشيائي، وأنا أخاطبه وقعت عيني عليه، كان يبين بالكاد من بين الرءوس الكثيرة حول المقام، جالسا في صحن المسجد على ما يشبه المصطبة الصغيرة، وأمامه رجال كثيرون، الرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت، كيف أتى؟ إلى هنا وماذا يصنع في هذا الليل وفي هذا المكان؟، تركت على سور المقام الحديدي أشيائي منقوصة في فمي قبل أن يكتمل قولها، واتجهت إلى جلسة الرجل ذي الجلباب الأزرق الباهت، كانت على هيئة دائرة تضم أكثر من ثلاثين رجلا، وكان كل منهم يتمتم في سره بكلام ما، أما هو فكان يتابعهم بعينيه، ولما رآني قادما، مد يديه على اتساعهما ورفعهما وخفضهما مرتين متتاليتين، لم يقل شيئا وإنما ابتسم وأشار لي بالجلوس فوسع لي اثنان مكانا بينهما وجلست، لاحظت أنهم جميعا ينظرون لي باستغراب وربما بفرح، فتنحنح ذو الجلباب الأزرق الباهت فعاد كل رجل إلى صمته، كان الصمت مبالغا فيه، وطال أكثر مما كنت قد قدرت له، ومع مرور الوقت تأكدت أنها جلسة صمت فلا كلام ولا نظرات، وإنما تمتمات صغيرة يحركون بها الشفاه، وبين الحين والحين يهتف رجل بصوت خافت:

حي.

ويعودون لصمتهم.

فجأة رفع الرجل ذو الجلباب الأزرق الباهت وجهه الغارق في الصمت وقال :

لا تقترب من الغلال ثانية، السارق وجهه أسود، وقد ستر الله عليك فانتبه.

كان صوته متقطعا كخطواته في شارع الجرجاوية، لكنه كان واضحا ومفهوما، وكان حنونا، فإذا بأحد الرجال ينخرط في بكاء شديد، وإذا برجل يهم بالقيام إليه فينهره بشدة ذو الجلباب الأزرق الباهت فيعود لمكانه ثانية، ويصمت الباكي.

عاد الصمت مرة أخرى، وكأنه لم يقل شيئا، وبعد فترة طويلة رفع رأسه مرة أخرى وقال:

طلقها ودعها لحال سبيلها فلا ولاية لك عليها من الآن، وارع ولدك واصرف عليه.

الذي بجوار الذي بجواري نظر في الأرض وهو يقول بصوت خافت:

ولكنها قليلة الأدب يا مولانا، و....

قاطعه ذو الجلباب الأزرق الباهت قائلا:

طلقها ودعها لحال سبيلها فلا ولاية لك عليها من الآن، وارع ولدك واصرف عليه.

وعاد الصمت إلينا، لكنه هذه المرة طال أكثر مما يجب، لكنني كنت مرتاحا في جلستي، وكان ثمة هدوء غريب يخيم عليّ حتى تمنيت ألا يطلع صباح هذا اليوم، لكنه التفت إلى من جواري وقال له:
هل أنهيت وردك؟

قال له:

نعم يا مولانا.

قال:

فأعطه لمن بجاورك.

ألقى مسبحته في حجري.

لم أكن منذ وسع لي مطرحا قد نظرت إليه، فلما ألقى مسبحته في حجري رفعت عينيّ إلى وجهه، عيناه هما نفس العينين الصارمتين اللتين يعرفهما كل طلاب المدرسة، إنه ضابط شارع المدرسة، ولكن في الهيئة التي رأيته عليها من بلكونة زميلي.

وضعت المسبحة في كفة يدي اليمنى، وظللت أرفعها وأهبطها وأنا أنظر إليه وإليها وقلت له:

ما هذا؟

همس بصوت خافت:

لتقرأ الورد.

حدقت في عينيه تماما، وكأنني آخذ بثأر كل زملائي في المدرسة وأنا أقول له بصوت عال:
وهل تظنني لم أقرأه؟ لا بد أنك لم تفهم كلام مولانا جيدا، إنه لا يقصدني، وألقيت المسبحة في حجره ورحت أواصل تمتمتي كما يفعلون.

كان ذو الجلباب الأزرق يتابعني أثناء حواري الهامس مع الضابط، كنت أقدر أنه لم يسمع الحوار، لكنني كنت متيقنا أن جميع من بالحضرة متأكدون أنه سمعه، بل إنه قادر على سماع ما يدور بخلدك دون أن تنبس به، وإلا ما كان يرد على ما تفكر فيه دون أن تقوله، ظلت عيناه مركزتين عليّ فيما يشبه الابتسام، وكان يهز رأسه فيما يشبه الموافقة، فألقى الضابط المسبحة في حجر الذي على يساره، فالتقطها فرحا وربّع رجليه وراح يتمتم.

سرى الوقت بطيئا صامتا لا يقطعه بين الحين والحين غير صوت ذي الجلباب الأزرق الباهت قائلا:

"لا تذهب لحقل البصل غدا"، أو "أعد جرة المش لموضعها" أو "سَمّ على فرن البيت عندما تنزل لصلاة الفجر وتمر عليه".

ويبدو أن من يعنيه هذا الكلام من الجالسين يعرف أنه المقصود، وشيئا فشيئا بدأت ألاحظ أن الرجال يتناقصون، وبدأت ألاحظ أن بعض الرجال ممدد جسمه على الحصيرة، وكان بعضهم يغط في نوم عميق، ففردت رجليّ وأسندت رأسي إلى يديّ، كان الذي بجوار الذي بجواري قد مضى، فأفسح لي الذي بجواري لكي يتسنى لي فرد جسمي كله، عندها أخذت راحتي ووضعت رأسي على حجر ضابط شارع المدرسة، ونمت بالفعل.

حينما فتحت عينيّ لم أجد في صحن المسجد أحدا غيري أنا وضابط شارع المدرسة.

افتعلت عدم اهتمامي، وقلت له:

هل صليت؟.

قال:

لم أشأ إزعاجك فقد كنت نائما نوما عميقا.

قلت له:

هيا بنا نتوضأ.

عدنا من الميضأة، وبكل جرأة تقدمت للإمامة، لصق أصابع رجله اليمنى في كعب رجلي اليسرى، وصلى ورائي.

حينما وصلنا لباب المسجد اتجهت إليه وأنا أضع فردة الشبشب في يميني وقلت له:

هل تعرف لماذا خرجوا كلهم وتركونا وحدنا؟.

أجاب مندهشا:

لا.

قلت وأنا أضع شمالي في فردة الشبشب اليسرى:

لعلني أريد إبلاغك بأمر ما.

قال ما هو؟.

قلت له وأنا أهم بمغادرة المكان:

عندما تمر بسيارتك في شارع المدرسة كل صباح لا تجعل السائق يضرب الكلاكس كثيرا كما يفعل كل يوم وعلى امتداد الشارع كله.

قلت كلامي ومشيت.

لحقني بخطوات سريعة، وقال مندهشا:

أي شارع وأية مدرسة؟.

ابتسمت ابتسامة العارف ببواطن الأمور وأنا أشير بأصبعي إلى صدري:

أنا أعرف.

ثم وجهت إصبعي تجاه صدره وأكملت:

وأنت تعرف.

وكأنه فوجيء، لكنه عقب:

هل مولانا هو الذي قال لك ذلك؟.

قلت له بسرعة:

دع مولانا في أحواله فهو جوال وطواف وذو نداءات شدّادة، واتركني لمواقيتي فأنا أدرى بها، وافعل ما قلته لك.

أجاب مبتسما:

طبعا سوف أفعل.

وعقب:

هل تريد شيئا؟.

قلت له وأنا أتركه:

منك أنت لا، أنا أريد منه هو، وهو يعرف ما أريد، وأنا ذاهب لما يريد.

...............................................

قال لي صديقي الشاعر عصام زايد، إن مولد الأنبا شنودة قد ابتدأ، فما رأيك في رحلة إلى هناك؟

قلت له:

وكيف يمكن أن يكون ذلك؟.

أجاب بمنتهى البساطة:

سأسمي نفسي "بطرس" وتسمي نفسك "جرجس"، ونستمتع بليلة بهيجة حتى الصباح.

أجبته ضاحكا:

اتفقنا يا "بطرس"، مر علي عصر الغد لنبتديء رحلتنا.

في مدينة سوهاج، كما في كثير من قرى الصعيد والوجه البحري تقام الموالد المسيحية، ولها مريدوها الذين يأتون إليها من القرى البعيدة، بل إن هناك من هو متفرغ لها تماما، من هذه الموالد مولد الأنبا شنودة في الجنوب الغربي لمدينة سوهاج، والذي يمتد توقيته لما يقارب الأسبوعين، وكثير من العائلات المسيحية كانت تتعامل معه على اعتبار أنه رحلة ترفيهية، فيحملون حقائبهم القماشية وأواني الطبيخ ويذهبون لقضاء خمسة أيام أو أسبوع كامل، ينامون في باحة الدير أو في الساحة الكبيرة التي تحيط بالدير ذي المساحة الهائلة، والكائن بطبيعة الحال في أطراف الصحراء، وهي فرصة مناسبة للقاء الشباب وقضاء أوقات ممتعة في الجري واللعب وفي الحب أيضا، حيث الليل لا نهائي والفضاء لا نهائي.

سمينا أنفسنا بأسمائنا الجديدة، وركبنا سيارة من ميدان سيدي العارف بالله بمدينة سوهاج وابتدأنا رحلتنا، ما أن وصلنا حتى هالني هذا الحشد المرعب من البشر الذي يكادون يسدون عين الشمس التي قاربت على الزوال، كانوا يدخلون الدير بطوابير لا نهائية، فاندسسنا أنا وبطرس في أحد هذه الطوابير، واستطعنا الدخول بجهد جهيد، ورأينا العجب العجاب، المكان ضارب في القدم كأنه إحدى القلاع الرومانية العتيقة، ثمة درجات قديمة متهالكة تؤدي إلى "المذبح" وخراف وعجول كثيرة تذبح، والدماء تلون الأرضية كلها، وتعلق في الثياب كلها وفي الأحذية كلها، تاه مني "بطرس" أو تهت منه، - سيظل توهاننا من بعضنا حتى انتهاء الرحلة – استطعت الصعود إلى الأعلى، وفي الأعلى لا شيء، مجرد سور يدور بالمكان كله معلق على لا شيء، وكلما ازداد الزحام تحركت للأمام حتى وجدت ما يشبه الفجوة، نظرت فإذا ببعض الرجال النائمين في هذا الكهف الصغير، قرفصت على رجلي وأسندت طهري إلى الحائط، ويبدو أن أحدهم صحا، فنظر لي وتساءل:

هل عم عبد الله أشعل الشموع؟

أجبته بثقة:

أين أنت وأين موعد الشموع؟

فعاد لنومته، وفجأة صرخت امرأة بصوت عال جدا:

"العدرا"

خرجت للسور، فإذا بالناس كلها تنظر للسقف العالي، وإذا بضوء يبرق وينطفيء في وسطه تماما، وإذا بتشكيلات في عمق هذا السقف يظل بريقها البرتقالي بعد انطفاء الضوء، وإذا بالصيحات تتعالي من باحة الدير، وكان البعض يبكي، أدرت رأسي لأرى السيدة العذراء، ويبدو أنني لففت دورة كاملة حول نفسي، وإذا بإحدى قدميّ تصطدم بالقدم الأخرى، وإذا بي أقع من على حافة السور الذي يبلغ ارتفاعه قرابة الستة أمتار أو يزيد، لكنني وقعت على أكتاف المتجمهرين بالباحة وبعدها استقر جسمي على بقجة لأحدهم، استطعت الوقوف، آلمتني ساقي اليسرى بعض الشيء، لكنني نجحت في التسلل شيئا فشيئا بعيدا عن الازدحام، كان مجرد التفكير للوصول للباب للخروج عبثا كبيرا، لكنني لمحت بالقرب مني شباكا واطئا يجلس عليه طفل يبكي، نططت إلى جواره لأسلمه لأحد خدام المكان كما نبهوا علينا ونحن ندخل، ما أن جلست بجواره حتى كف عن البكاء، ولما سألته إن كان يريد شيئا، ضربني بالقلم على وجهي وضحك ونط كالقرد إلى الأرض، وضعت يدي عبى خدي مكان قلمه وضحكت، لكنني اكتشفت أنني لو نططت للخارج بدلا من النط للداخل فسأصبح خارج الدير، وهكذا بقفزة واحدة وجدت نفسي في باحة الدير الخارجية، ومنها اتجهت مباشرة إلى البوابة الحجرية الكبرى وأصبحت في الفضاء العريض.

في الفضاء العريض كانوا يفترشون الرمال، وبعضهم كان يأكل، وبعضهن كن يتسربن يمينا وشمالا، تبعت إحداهن وقلت لها:

أهلا يا إيزيس، أين أنت؟.

أشاحت غاضبة وهي تصرخ بصوت عال:

إن لم تبتعد عني فسأخبر الشاويش لتروح في داهية.

ابتعدت عنها وأنا أتمتم:

معذرة ظننتك إيزيس جارتي.

فردت أصابعها الخمسة في وجهي وقالت:

كُبَّةْ.

...............................................

تركت إيزيس وكبتها، وعرجت ناحية الجبل، كان بعض الرجال يصعدون، فانضممت إليهم، وشاركتهم أحاديثم، كانوا يتكلمون عن "العِلِّيَّةْ" ويصفون بركاتها، لاحظت أن معهم بعض الحمير، غير أنهم يمشون بجوارها ولا يركبونها، كان الصعود للجبل متعبا بعض الشيء، خاصة أن سفحه لا يبين، ويبدو أن المشوار طويل جدا، قلت لأحدهم:

هل هذا حمارك؟

أجاب:

لا إن حماري هو الذي في المقدمة، أحضرت عليه البرتقال والمنّين، وسوف أحمل عليه الجراو في أعلى الجبل.

استأذنته في ركوبه، متعللا بأنني مشيت اليوم كثيرا وأشعر ببعض التعب.

لم يجب صراحة بلا أو نعم، وإنما غمغم ببعض الكلمات لم أفهمها، وأشار بيده بعض الإشارات اعتبرتها موافقة منه على ركوب حماره، فشكرته واقتربت من حماره وركبته.

يبدو أن ركوبي للحمار شجع رجلا آخر بركوب حمار آخر فركبه، واقترب حماره من حماري وبدأنا نتسامر.

عرفت أنه صاعد للـ "العِلِّيَّة"، حيث سيبدأ عمله حتى طلوع الشمس، وهو عمل مرهق لكنه يفعله فقط لوجه الله، ولقضاء حوائج خلقه المهمومين، أما عمله هذا الذي يفعله ولا ينتظر من ورائه أجرا، فهو فك الأعمال والعكوسات التي تقوم بها بعض نسوة مغتاظات من بعض نسوة أخريات، فينتج عن هذه الأعمال عدم زواج أو عدم انجاب أو هجران أزواج إلى غير ذلك من أنواع الأذى المختلفة، وهؤلاء النسوة ينتظرن هذا المولد من العام للعام ليقمن بفك هذه الأعمال فوق هذه الـ "العِلِّيَّة" المباركة، حتى يتاح لهن أن يتزوجن أو يحملن أو يحلون في وجوه أزواجهن فلا يهجروهن، ثم التفت إليّ وسألني:

لماذا أنت صاعد للـ "العِلِّيَّة"؟

أخرجت شمعة من جيبي كنت قد أخذتها من كهف سور الدير، وقلت له:

في العام الماضي نذرت أن أشعل هذه الشمعة في جوف الجبل، لكن أبي كان مستعجلا وأصر على العودة قبل الصعود للجبل، لكنني احتفظت بشمعتي وها أنا ذا أصعد لأقيدها هذا العام.

يبدو أنه اندهش جدا من إجابتي، وأفهمني أنه كان بمقدوري إشعالها في الدير لأن الدير يصلح فيه هذا الأمر كما يصلح في الجبل، وأوضح لي أن الذين يقيدون الشموع في كهف الجبل هم شباب قليلو الأدب، يتعللون بإشعال الشموع وهم في الحقيقة ينفردون بالفتيات اللواتي يذهبن إلى هناك بنفس الحجة، وفي ظلام الكهف يختلط الحابل بالنابل.

كنت أعرف حكاية الشموع، وما أتيت أنا وبطرس من آخر الدنيا إلى هنا إلا من أجل موضوع الحابل والنابل هذا، لكنني اصطنعت عدم التصديق، وزجرته على اتهامه لي، وأفهمته أن الأمر، بالنسبة لي على الأقل، ليس على هذه الشاكلة، وأنني فقط أريد أن أفي بنذري الذي نذرته العام الماضي وحال أبي المستعجل بيني وبين تحقيقه.

نظر إلى الرجل فيما يشبه الاعتذار وأكد لي أنه لا يقصدني وإنما فقط ينبهني لكي آخذ حذري، وعقب بعد أن تملاني مليا:

ثم أنك صغير جدا على هذه الأفعال.

شرق بنا الكلام وغرب، وكان كلما مررنا بمجموعة من الشباب صاعدين أكد لي بتصميم غريب أن مقصدهم حكاية الحابل والنابل، فإذا ما ضحكت إحداهن وهي صاعدة أشار لي لآخذ بالي، أما إذا أمسك أحدهم بخصر إحداهن وهي تتعثر في صعودها ليسندها قال لي: تفرّج يا سيدي، فأتفرج، حتى وصلنا إلى السفح، فنزلت من على ظهر الحمار وشكرت صاحبه، وتركت راكب الحمار الآخر راكبا فوقه، وتبعت الضاحكات والساندين هؤلاء المتحججين بالشموع، حتى وصلنا لكهف عميق جدا، ومتسع جدا، حتى أن أول ملاحظة يمكنك أن تلاحظها هي أن سقف الكهف سيقع لا محالة على رأسك، فهو مجرد نتوء من الجبل، نتوء كبير جدا، لا أعمدة تحمله، وهو عميق جدا، وتندهش كيف بقى كل هذه السنوات دون أن يقع؟ دخلت مع الداخلين، كنا في بعض الأحيان نضطر لأن نحني رءوسنا نظرا لأن ارتفاع هذا السقف أحيانا يكون منخفضا جدا، وفي آخر هذا العمق، يلتحم السقف تماما مع أرضية الجبل، هناك يوجد ما يشبه الحائط المائل، في هذا الحائط المائل عليك بتثبيت شمعتك وإشعالها، كان الزحام كثيرا، وكانوا يشعلون الشموع ويمضون، وفي زوايا كثيرة من هذا الكهف كان الحابل والنابل فعلا يبينه ضوء الشموع الشحيح أحيانا، وتخفيه الظلمة أحيانا أخرى، نجحت في إشعال شمعتي بسهولة، ولم أنجح أبدا في موضوع الحابل والنابل، فخرجت، وظللت أمشي، كانت الجماعات البشرية المتناثرة على سفح الجبل على قلتها قادرة على منح الإيناس، حتى سمعت من ينادي بصوت عال:

جرجس، يا جرجس.

لم ألتفت، حتى وجدت من يشدني من يدي، فالتفت، فإذا به راكب الحمار، تذكرت اسمي، وعرفت أنه يقصدني، فاعتذرت له بأنني لم آخذ بالي من ندائه، لكنه سألني:

هل تشتغل معي الليلة؟.

اعتذرت له، وأكدت أنني وفّيت نذري وانتهى الأمر، وعليّ الآن العودة فقد تأخرت.

قال لي:

سأعطيك أربعين قرشا لو بقيت معي حتى شروق الشمس.

أجبته:

أربعون قرشا فقط؟.

قال:

خمسون قرشا، وعقب وهو يمضي:

تعال ورائي.

ولما لاحظ أنني لم آت وراءه عاد لي وقال:

الأمر في غاية البساطة فلا تحمل هما.

كان أحدهم قد ضرب طوبة على كلب وكلبة وهما يقضيان وقتا ممتعا، وكان الكلب والكلبة رغم انفصالهما ملتصقين من الخلف، وكان الطوب يلقى عليهما من أكثر من رجل، فيما الكلب يحاول الهرب جارا معه الكلبة التي كانت تجري للخلف بحكم الاتصال اللاإرادي، فكرت أن عقوبة الرجم الخاصة بالزنا ليست قاصرة على البشر فقط، لكن الرجل شدني من ذراعي وهو يفهمني أنني لا بد أن أفهم عم سمعان أنني من طرف عم نزيه، وأنني عملت معه من قبل وأفهم في الشغلانة.
قال لي عم سمعان:

هل تحسن القراءة والكتابة؟.

أجبته بثقة:

فماذا كنت أفعل إذن مع عم نزيه؟.

قال:

اكتب على كل ملاءة الرقم الذي أكتبه على كف المرأة، حتى إذا هبطت لك عرفت ملاءتها ولففتها بها.

أعجبتني الفكرة جدا، فمجرد إحساسي أنني سأستقبل امرأة وأقوم بلف ملاءتها عليها بيدي الاثنتين حدث بالنسبة لي خيالي، فأجبته فرحا:

وهل تريدني أن أكتب الرقم باللغة الانجليزية أو باللغة العربية؟

ضربني على كتفي باستخفاف وقال:

بالعربي يا خفيف، عندما يجيئنا الأجانب سنحتاج إلى لغاتك التي تتقنها أيها المثقف.

طمأنه وأنا أبتسم بأنني سأقوم بما يوكل لي بأمانة مطلقة.

قلت لزميلي راكل الحمار:

لماذا ألف الملاءة على المرأة عندما تأتي لي، ألا تستطيع هي لفها؟.

ما حكاه لي زميل رحلة الصعود المبجل راكب الحمار يفوق الخيال.

المرأة التي تريد أن تنجب تخلع كل ملابسها وتصبح عارية تماما، وتلف جسمها بقماش أبيض شريطة ألا يكون مُخَيَّطا، ويربط قدماها ووسطها وصدرها برباط على هذا القماش الأبيض غير المخيط والذي يشبه الكفن، ثم تنام في أعلى "العِلِّيَّة"، ويزقها أحدهم بيديه زقة خفيفة فتتدحرج حتى تصل إلى أسفل الـ "العِلِّيَّة"، أكون أنا في انتظارها فأفك الأربطة وأنزع عنها القماش الأبيض الملفوف وأقرأ الرقم الذي في يدها اليمني وأحضر الملاءة التي عليها نفس الرقم، فألفها بها وأسقيها الماء المحلى بالسكر.

أعجبتني الشغلانة جدا، وقلت له:

هذا أمر في غاية السهولة، فلا تقلق.

أحضروا لي أكثر من خمسين ملاءة، في طرف كل منها رقم، الغريب أن هناك أرقاما كبيرة مثل "365" أو "567"، فيما عدد الملاءات لا يفي بهذه الأرقام الكبيرة، لم أهتم بالأمر، كومت الملاءات عند رجل بجواري واتفقت معه أنني سأنادي عليه برقم الملاءة فيحضرها، وجلسنا ننتظر.

لما طال الوقت أكثر مما ينبغي، قلت لحارس الملاءات:

هل رجعوا في كلامهم؟ أين النسوة؟

أفهمني أن الأمر يحتاج بالفعل لوقت كبير، فالمرأة تأخذ القماش الأبيض، ثم تتنحى جانبا بحيث لا يراها أحد فتخلع كل لبسها، ثم ترش على جسمها الماء المقروء عليه، وتقف في الهواء حتى ينشف جسمها كله، فتلف القماش الأبيض حول جسمها، ثم تنادي من يربط لها الربطات، ثم يحملها بين يديه ويأتي بها على رأس الـ "العِلِّيَّة"، فيأتي إليها القس ليتلو كلماته وهو يمسح على رأسها المغطى بالقماش الأبيض، ثم يدحرجونها لنا، وهكذا.

وضع ثلاثة قوالب طوب على هيئة مربع ناقص ضلعا، وكوم بعضا من الحطب وأشعله، وأتى بعلبة مربى ملأها ماء وأخرج من جيبه قرطاس دلق منه في يده بعض الشاي وحطه فوق الماء وأغلق القرطاس وأعاده لجيبه، وأخرج غيره ودلق كل السكر الذي فيه في علبة المربى ووضعها على النار، وكان بين الحين والحين يقلب الحطب بحطبة أخرى في يده حتى استوى الشاي فصب لي كوبا وصب لنفسه كوبا وأخذنا نشرب وأنا أسمع منه حكايات النسوة المتدحرجات.

أتانا الصوت من الـ "العِلِّيَّة":

اصح يا جرجس واستقبل.

عرفت أنه يقصدني، فتركت كوب الشاي قبل أن أستكمله، وقلت لحارس الملاءات انتبه، وجريت لأسفل الـ "العِلِّيَّة" ووقفت لأستقبل.

كانت الـ "العِلِّيَّة" تنحدر على مدى ما يقرب من الثلاثة كيلوات، وكان الذي يدحرج المرأة ينادي "اصح يا صبحي واستقبل"، فينتبه صبحي الذي يكون في ثلث المسافة تقريبا، وينادي بدوره "اصح يا وزيري واستقبل"، ووزيري هذا هو الذي يكون في المسافة التي تفصل بيني وبين صبحي، وهو الذي ناداني وطلب مني الصحيان والاستقبال، وهل كنت نائما لأصحو يا سيد وزيري في مثل هذا الموقف؟.

النسوة المتدحرجات تقريبا كن غائبات عن الوعي، وبعضهن كن يبكين، والبعض الآخر كانت تصيبهن حالة من التشنج والصراخ، لكنني كنت أؤدي عملي بحنكة وحرفية مبهرة، كان انعكاس ضوء القمر على أجسادهن العارية بعد أن أزيح عنهن قماشهن الأبيض يزيده وضوحا وحلاوة، إحداهن بعد أن خلعت عنها القماش الأبيض ونجحت في تهدأتها وشربتها الماء المحلى بالسكر، وقفت أمامي وظلت تشتم في أم عطيات وتلعن سلسفيل جدودها، فهي سبب كل هذه المصائب التي حطت عليهم، ولولاها لاستطاعت أن تبني الدور الثالث من البيت، ولولاها لما اضطرت لأن تبيع ذهبها وتلبس الذهب القشرة، كانت حادة جدا في كلامها عن أم عطيات وهي تشرح لي كيف أن الله ابتلاها بهذه المرأة وكيف أن زوجها ضعيف أمامها لأنها أخته الكبرى، وهو لا يعرفها على حقيقتها، يظنها ملاكا وهي شيطان رجيم، ولما أرادت أن تريني الذهب القشرة الذي ترتديه في يديها، رفعت لي يديها وبحركة عفوية أرادت أن تشمر كم جلبابها، فلم تجد كُمًّا ترفعه، ونظرت إلى نفسها فإذا هي واقفة أمامي كل هذه الفترة وطوال كل هذه الحكايات وهي عارية تماما، وحتى بدون الملابس الداخلية، فظلت تضرب على ثدييها وتصرخ بشكل عصبي وتدق برجليها على الأرض وتحاول أن تداري سوءتها بيديها، وفجأة وقعت على الأرض في إغماءة أخرى.

إحداهن كانت مغمضة عينيها بشكل دائم، فككت عنها قماشها الأبيض وهي مغمضة العينين، ونفضت الرمال العالقة ما بين ثدييها بيدي الاثنتين وهي مغمضة العينين، ولففت حولها الملاءة رقم 26 وهي مغمضة العينين، وسقيتها الماء المحلى بالسكر وهي مغمضة العينين، وقبلتها فاستقبلت قبلتي مغمضة العينين، ثم أحكمَتْ الملاءة حول جسدها بيديها وسارت وهي مغمضة العينين.

إحداهن كانت فرحة جدا بعد أن تأكدت أنها اجتازت التجربة بنجاح، وظلت تدور حولي وتتنطط، حتى أنها رقصت عارية أمامي، ويبدو أنها تعاملت معي كطفل صغير أكثر مما ينبغي، لأنها قبلتني في خدي وهي تملس على شعري وقالت لي:

لو تم المراد فسأعطيك هدية كبرى يا أحلى جرجس في العالم كله.

إحداهن كانت شديدة الجرأة بشكل يكاد يكون وقحا، وكانت تأتي بأفعال خطرة، وتقول ألفاظا مكشوفة، وتمد يديها في أماكن محظورة، ويبدو أنها تعاملت معي كرجل ناضج أكثر مما ينبغي، لأنها قبلتني في شفتي وهي تملس على صدري وقالت لي:

إن تحقق ما أتيت من أجله سأدخلك الدنيا الحقيقية من أوسع أبوابها.

كان على هؤلاء النسوة بعد أن يهدأن، أن يصعدن الـ "العِلِّيَّة" على أقدامهن حافيات، حتى يصلن إلى المكان الذي فيه ملابسهن فيرتدينها ويذهبن لحال سبيلهن.

قبل شروق الشمس بقليل ناداني عم سمعان، ومد لي يده بأربعين قرشا، فرفضت وقلت له إن الاتفاق كان على نصف جنيه كامل، لكنه رفض مؤكدا لي أن هذا المبلغ هو المتفق عليه، وإن لم يعجبني فعليّ أن أقول ذلك لعم نزيه وهو الحكم الفصل بيننا، قلت بصوت عالٍ:

لا إله إلا الله محمد رسول الله، يا أخي لقد اتفقت مع راكب الحمار على خمسين قرشا، فهاته واسأله.

كان يبحلق في وجهي بشكل مبالغ فيه، وإذا به يترك موضوع الفصال على المبلغ ويقول لي:
أنت مسلم.

انتبهت لملاحظته، لكني واصلت كلامي:

لا تخرج عن الموضوع وأعطني ما اتفقنا عليه.

قال تعال معي لأعطيك ما اتفقنا عليه.

سرت معه فإذا به يأخذني إلى القس الذي يتلو كلماته على رءوس النسوة المتدحرجات، ويميل على أذنه ويوشوش له ببعض الكلام، أظنني فهمته، فإذا بالقس يشير لي أن أقترب، فاقتربت، وقال لي:

ما اسمك؟

قلت له: سماح عبد الله الأنور.

قال لي:

فلماذا ادعيت أنك مسيحي واسمك جرجس؟.

أجبته بأنني لم أدع ذلك وإنما صاحبي عصام زايد هو صاحب الفكرة وقد سمى نفسه بطرس وأسماني جرجس، وأننا أتينا فقط من أجل الفسحة وقضاء وقت طيب مع أشقائنا المسيحيين.

سألني:

وأين صاحبك عصام؟

أخبرته بأنني تهت منه في زحام الدير.

هز رأسه وسكت.

بعد فترة أتى عم سمعان بأحد العساكر الذي اصطحبني إلى مكان بالقرب من مدخل الدير، كان فيه عدد كبير من الشباب، فيهم اللص النصاب والهارب من التجنيد، والباقون كلهم مسلمون، كنا نقترب من المائة شاب، فأجلسونا في صفوف، كل صف فيه عشرون واحدا، كانت الشمس قد سطعت، وكان مجموعة من الضباط قد أتوا إلينا، بدأ أحد الضباط بالكلام مع واحد في الصف الأول، ثم طلب منه الجلوس وحده بجوار السيارة، وعندما أوقف الذي بجواره فوجئت بأنه يضربه ويركله على كل أنحاء جسمه بلا سبب واضح لنا، لكن العساكر استلموه وأدخلوه في السيارة الكبيرة وأغلقوا بابها، نظرت إلى الضباط، فإذا بي أجد بينهم ضابط شارع المدرسة، وكأنه طوق النجاة الذي أرسله الله لي، فوقفت وزعقت بصوت عالٍ:

هل طلعت شمس هذا اليوم؟

زعق أحد العساكر فيّ بأن أصمت، فجلست، لكن ضابط شارع المدرسة رآني، وظل يتابعني بعينيه، وفجأة وقف وطلب من العساكر أن يركبونا في السيارة، والباقون ينتظرون حتى تعود السيارة مرة أخرى لتحملهم، ووقف بيننا، وعندما جاء دوري لأركب شدني من قميصي، فجلست، لكني العسكري الساذج سأله بسذاجته المعهودة:

وهذا؟.

وأشار عليّ، فزعق فيه الضابط قائلا:

إنه طفل صغير، فهل أتينا لنقبض على الأطفال؟ أم تريدنا أن نضعه مع هؤلاء المجرمين ليصبح مثلهم؟.

امتلأت السيارة وانطلقت، كانت جلسة القرفصة التي طلبوا منا أن نجلسها مرهقة جدا بالنسبة لي، وبدأت أشعر بالتعب، فمددت رجليّ وفردت جسمي على الرمال ووضعت يدي على وجهي لتقيني من ضوء الشمس، نهرني العسكري، لكن ضابط شارع المدرسة نهره، فتركني، الأمر الذي شجع بقية الرفقاء على أن يقلدوني، ففعلوا ولم ينهرهم العسكري ولا الضابط، عادت السيارة لتحملنا، ولما جاء دوري للصعود حجزني أحد العساكر الذي يبدو أنه لم يكن ساذجا، فصعد من معي كلهم إلى السيارة وانطلقت بهم، قادني العسكري إلى سيارة أخرى، سيارة ملكية عادية، وفتح لي الباب الخلفي فركبت، ويبدو أنني نمت، ولم أصح إلا عندما شعرت أن السيارة تهتز، فتحت عيني فإذا بالسيارة تسير بي في طريق العودة إلى سوهاج، وإذا بجواري ضابط شارع المدرسة، وإذا بالعسكري الذي قادني إلى السيارة هو نفسه السائق الذي كان يقود هذه السيارة كل صباح في شارع المرسة فيقلب حال الشارع بسبب الكلاكسات الكثيرة التي يضربها طوال الطريق.

نظرت إلى الضابط وقلت له:

هل رأيت النخلات اللواتي على سفح الجبل؟ هل أكلت من تمراتهن؟

أجاب مندهشا:

لا توجد نخلات في أي جبل في الدنيا.

أعدت عليه نصف السؤال مرة أخرى:

هل أكلت من تمراتهن؟

قال:

لا.

هززت يدي وقلت:

فاتتك حلاوة الدنيا كلها إذن، وعقبت:

عندما ترجع اصعد للجبل، دع الكهف الذي يقيدون فيه الشموع، ودع الـ "العِلِّيَّة" التي يدحرجون منها النسوة، وسر لمدة ساعة وحدك، ستجد النخلات وتأكل تمراتهن، وأغمضت عينيّ وسكتُّ.

على كبري الهاويس، وفي منتصفه تماما، قلت للسائق:

قف هنا.

لم يقف، لكن الضابط طلب منه الوقوف فوقف، وسألني إلى أين؟

كان كبري الهاويس هذا تحت منزلنا مباشرة، ولم أكن أريده أن يعرف سكني، كما لم أكن أريد لأحد من أصحابي أو جيراني أن يراني معه، قلت للضابط.

عد أنت إلى تمرات الجبل، ودعني هنا، فتحت باب السيارة ونزلت، وجلست على سور الكبري، لم تتحرك السيارة، كان الضابط ينظر لي ولا يريد أن يتحرك، فنزلت من السور ونظرت إليه وقلت:

احرص على أن تأكل التمرات اليوم، وعدت إلى مكاني على السور.

لفت السيارة وعادت في الطريق الذي أتت منه، ولما غابت عن ناظريّ، نزلت من السور واتجهت إلى البيت.

...............................................

رؤيتنا للرئيس الراحل محمد أنور السادات اختلفت تماما بعد توالي العقود على رحيله، استطعنا أن نقرأ فترته بعين موضوعية، وبعضنا حاول جاهدا أن يرد له اعتباره، لكن الذين عاشوا فترته يتذكرون جيدا رؤيتنا القديمة له، كنا نراه رجلا خائنا، أخرج رجال الإسلام السياسي من جحورهم ليضربوا الشيوعيين والناصريين بعد نشوب مظاهرات 17 و18 يناير 1977 التي اجتاحت وسط القاهرة وكادت تهوي بعرشه، والتي أسماها "انتفاضة الحرامية" وفتح الباب على مصراعيه أمام تجار الخيش والخردة ليصبحوا رجال المال الجديدين ويتصدروا المشهد السياسي والاقتصادي خاصة بعد انتهاج سياسة الانفتاح الاقتصادي الذي أسماه أحمد بهاء الدين "سياسة السداح والمداح" وكانت الطامة الكبرى هي مده يده لمصالحة اليهود، أعدائنا الطبيعيين، وتوقيعه لمعاهدتي كامب ديفيد.

في نهايات عام 1979 عرفنا أن السادات سيزور سوهاج، لتكريم أحد شبابها النابهين وهو المحامي وعضو مجلس الشعب ورئيس المجموعة البرلمانية لمحافظة سوهاج وأحد أمناء ومؤسسي الحزب الوطني الديمقراطي محمد عبد الحميد رضوان البالغ من العمر سبعة وثلاثين عاما، والذي سيقوم باستضافة الرئيس المؤمن محمد أنور السادات في بلدته "أولاد طوق شرق" والتي سيتغير اسمها بمجرد دخول الرئيس المؤمن إليها إلى اسمها الجديد الذي تعرف به اليوم "دار السلام"، وهو اسم بيت السادات في مسقط رأسه "ميت أبو الكوم" بمركز تلا بمحافظة المنوفية، حيث شاعت في هذه الفترة مفردة "السلام" كاسم وعنوان لكل شيء، حتى الحلاق الطيب الذي كان يقص شعر رأسي غير اسم دكانه من "حلاق الأمانة" إلى "حلاق السلام"، أما محمد عبد الحميد رضوان فسوف يتم اختياره بعدها وزيرا للثقافة المصرية.

في يوم زيارة الرئيس المؤمن محمد أنور السادات لسوهاج كان هو نفس اليوم الذي من المفترض أن أذهب فيه إلى قسم شرطة سوهاج لاستلام بطاقتي الشخصية فقد كنت أكملت عامي السادس عشر، الذي كتب عنه أحمد عبد المعطي حجازي عندما تجاوزه قصيدته الحلوة "العام السادس عشر" حيث اصفر لونه عندما وقعت على المرأة عينه، لكن الضابط الذي ذهبت إلى مكتبه في قسم الشرطة زعق في وجهي:

ألم تجد غير يوم القيامة هذا لتستلم فيه بطاقتك؟، اذهب وتعال في أي يوم آخر، أغلق مكتبه ومضى مسرعا وهو يقول بصوت عالٍ:

اللهم عدّ هذا اليوم على خير.

كانت الناس كلها في الشوارع تسير باتجاه ما، سرت معهم، كنت أريد أن أرى وجه هذا الخائن الذي كنت أهجوه في قصائدي، والذي باع البلد لليهود وحط يده في يد من قتل المصريين، وكنت واثقا من أن شباب سوهاج الثوريين سوف يعاملونه معاملة تليق بخيانته لوطنه وناسه وتاريخه، كنت متحمسا جدا في هذه الفترة، حتى ظننت أن سوهاج ستكون محطته الأخيرة، وأن هذه اللحظة ستكون لحظته الأخيرة، أثناء سيرنا انضممت إلى مجموعة من الشباب الكارهين له، كانوا يسبونه بأفظع الشتائم، وكنت أشاركهم هذا السباب، حتى وصلنا إلى حيث لا نستطيع أن نسير، كانت الناس كثيرة جدا، وكان الضباط والعساكر حولنا في كل مكان، جاءنا أحد الضباط وقال:

قفوا هنا.

ومد يديه الاثنتين لإيقافنا، جادله بعضنا لكنه رفض مؤكدا أن هذه الوقفة أفضل لأن الاستمرار في الانضمام إلى الآخرين من شأنه إعاقة حركة سير الموكب، تركته يجادل المتجادلين وتركتهم يجادلونه وأحنيت رأسي من تحت ذراعه الممدودة وانفلت، لم يستطع أن يلاحقني ويترك المتجادلين، واستطعت أن أقف في صدارة الصفوف، أتت الموتوسيكلات من على البعد تزمر تزميرا موقعا، لم تكن مسرعة، على العكس تماما كانت بطيئة جدا، بعدها مرت بعض السيارات السوداء التي لم نعهد مثلها في سوهاج، فيما بعد عرفت أنها أتت معه من القاهرة، كانت هي أيضا بطيئة، الذي غاظني جدا وسوّد الدنيا في عيني هو كل هذا التصفيق المرعب الذي كنت أراه من جماهير سوهاج، والهتاف الحنجوري الزاعق:

أهلا بيك يا سادات
احنا معاك يا سادات.

أما الذي فوّر الدم في عروقي وكاد يقتلني غيضا فهو موقف شباب سوهاج الذين شاركتهم المسير إلى هنا، فقد نظرت إليهم حيث مكانهم المحتجزين فيه مع الضابط رافع الذراعين لأستنجد بهم في مواجهة هذا الهتاف الحنجوري، فإذا بهم يشاركون من مكانهم في هذا الهتاف، بل إن أحدهم وهو أكثرهم حماسة في رحلة السباب المشترك بيننا في الطريق إلى الموكب والذي كان يؤكد على أن السلام مع العدو الصهيوني جريمة تاريخة كبرى والحل الوحيد هو الحرب الدائمة مع إسرائيل حتى زوالها تماما من على ظهر الأرض، هذا الشاب ركب كتف زميله الآخر وأخذ يزعق بصوت أكثر جهورية قائلا:

يا سادات يا همام
احنا جنودك للسلام.

اقتربت السيارة التي يركبها الرئيس، كانت سيارة مكشوفة، وكان السادات واقفا فيها يلوح بيديه الاثنتين، ويرد على تحية الجماهير بابتسامة كبيرة جدا، الملاحظة الكبيرة التي استوقفتني في رؤيتي له، أنه كان شديد السمرة، بل لا أبالغ إذا قلت إنه أسود تماما، كانت السيارة تسير ببطء شديد، وكان الهتاف والتصفير قد بلغ عنان السماء على جانبي الطريق، وكانت الموتوسيكلات والسيارات التي تسبق سيارة الرئيس قد سبقتها وثمة مسافة كبيرة أمام هذه السيارة المكشوفة التي يقف فيها الرجل الأسود الهمام الذي نحن جنوده للسلام، فجأة تكهرب الجو كله، وسكت الهتاف والتصفير، وتوقفت كل السيارات بما فيها السيارة المكشوفة، أما الضباط والعساكر فقد أسقط في أيديهم.

الذي حدث أن الرجل ذا الجلباب الأزرق الباهت، ظهر فجأة أمام السيارة المكشوفة، لا يعرف أحد في الدنيا كلها كيف استطاع أن يعبر من كل هذه الحواجز الأمنية، وهو البطيء الخطوات ويصل إلى عمق الشارع وأمام الرئيس المؤمن محمد أنور السادات مباشرة، اندفع كثير من الضباط إليه، لكنني رأيت ضابط شارع المدرسة يهرول إليهم حتى وصل إليهم قبل أن يصلوا إليه، أبعدهم عنه ومد يده اليمنى ليده اليسرى، ومشى معه بنفس إبقاع خطوته الهادئة المهتزة المرتبكة، حيث كان ثمة اهتزاز يعتري جسده كلما هم بتحريك إحدى رجليه يجعله أحيانا كثيرة يرجع إلى الوراء بدلا من التقدم للأمام، فإذا ما خطا خطوتين للأمام يعود خطوة للوراء، لكن ضابط شارع المدرسة كان يخطو كما يخطو هو، مصرا على التشبث بإمساك يده، ولما اقترب من الصف الذي أقف فيه، مددت أنا يدي إليهما، رآني ضابط شارع المدرسة، فابتسم ومد يده لي، فخرجت من الصف وأمسكت بكوع ذي الجلباب الأزرق الباهت، حتى استطاع ثلاثتنا أن يعتلوا الرصيف، تركنا الموكب والمصطفين واتجهنا ناحية الحائط، عاد التصفيق والهتاف، وبدأت السيارات تتحرك بطيئة متمهلة، وعاد الرئيس المؤمن إلى تلويحاته وابتساماته التي يوزعها على المرحبين به، سرنا أنا والضابط وذو الجلباب الأزرق الباهت في اتجاه النفق المؤدي إلى ميدان الأوبرا.

لا الرئيس المؤمن محمد أنور السادات، ولا محافظ سوهاج، ولا مدير الأمن، ولا رفاقهم الضيوف، ولا الضباط والعساكر، ولا الجماهير الغفيرة المحتشدة يعرفون السبب.

وحدنا، أنا، وضابط شارع المدرسة نعرف كل حاجة.

...............................................
السمّاح عبد الله


التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.