الرئيسية » » الرجل الثالث - قصة أحمد طارق

الرجل الثالث - قصة أحمد طارق

Written By هشام الصباحي on الخميس، 12 فبراير 2015 | 5:00 ص

كانا مجرد رجلين....يلعبان الورق

أولهما رجل معدم فقد كل شيء سوى غريزة المقامرة و ولع أشبه بالحمى لفقد المزيد

ثانيهما رجل امتلك كل شيء و يرغب في المزيد

ربما كان كل منهما يجهل ماهية الدوافع التي تبقيه راغبا في مواصلة اللعب

لعبا قرونا ,

و النتيجة ذاتها

كان أولهما يخسر دوما

و كان الثاني هو الفائز دائما

أولهما على يقين

أن ما يجري في شرايينه ليس دما بل هو خمر للقمار

و ما يضخ الخمر ليس قلبا

بل أوراق لللعب

بل هو على يقين-و إن لم يعترف لنفسه بذلك-أن انتصاره

في لعبة بوكر نظيفه

ليس ممكنا

ثانيهما لم يخسر منذ

أن بدأ دافينشي يتعلم التلوين

منذ أن بدأ زرادشت يتعلم النطق

و أعلن قيصر الحرب على القوطيين

كان المحرك لكل منهما هو ذلك الباعث

أن صاحبه -وإن كان ضده-هو أكثر البشر امتلاكا لما
حرم منه
فهو مصاب بلعنة هي عكس لعنة الآخر

أولهما يريد أن يشرب كأس خمر احتفالا بانتصار

مرة

قبل أن يوارى الثرى

و ثانيهما لا يريد أن يلق ربه

و هو لم يخسر قط

كل منهما يريد أن ينهي لعنته

و قررا ذلك

الليلة

كان الأمر أبسط من اللون الأخضر

راهن الأول على حياته

و راهن الثاني على كل ما يملك من ثروة

و جعلا رجل ثالث حكما للجنون

صديق لكل منهما

يعجب الإثنان بكلامه و حسن منطقه

و يؤنس قلبيهما قربه

ودفء ابتسامته
و عرض عليهما جنونه
و لم يرفضاهك
انا بدآ الليلة ككل ليلة
لعبا عشرة أشواط نظيفة
و النتيجة ذاتها بكل ما في العالم من ملل
بيسراه يستقر مسدس ذو ساقية دوارة
به طلقة واحدة
و في يمناه عقد بكل ثروة الثاني
و عندما ينتهي اللعب
يحسم الصراع
الذي بدأ منذ قرون
أنهى الثاني توزيع أوراق اللعب
و ارتشف رشفة طويلة
كأس مترفة بنبيذ بوردو كميتي اللون
قوي المذاق
و كانت تلك أول مرة
يشرب الخمر غير محتفل بالنصر
اعتصر الأول صليبه الخشبي المعلق برقبته و تلى صلاة متضرعا
عل الحظ يميل
عله يرى نور شمس الغد
لكنه أقسم أنه-إن كان الخاسر-فهو سيقبل الموت ضيفا
عله يجد في العالم الآخر من يلاعبه الورق
و عله هناك يكون منصورا
كان الثاني أول من تناول الأوراق
و رأى ما ستره القدر
كاد حاجباه أن يرتفعا ذهولا
و كاد وجهه أن يكشف ما لم يره صاحبه
لكنه كان قد خبر اللعب قرونا
و كان من المستحيل أن يخطأ خطأ السذج
كانت أوراقه كلها بيضاء من غير سوء
في البداية لم يصدق
كان عقله يعمل كتشيرنوبل قبل أن ينفجر بلحظات
كيف أن أوراق اللعب -التي أنهيا عشرة أشواط بها-أصبحت فجأة
بيضاء
كقماش رسم بكر لم تطأة فرشاة
كلوح لم يمسه الحبر
كل ما كان في ذهنه وقتها شيء واحد
أي ورق يملكه صاحبه
سيكون رابحا
علم وقتها أنه فقد كل شيء
كان يعلم أن الرصاصة في مسدس
ثالثهما
سترتد في صدره لو أنه حاول أن يأخذ العقد من صاحبه المعدم
و هو-و إن كان قد خسر كل شيء-يملك من الكرامة و الإباء
ما يمنعه من تصرف كان أولى
بصاحبه المعدم
لكن فكرة واحدة سيطرت عليه
فكرة أنه قضى قرونا من الزمان
ملكا لأوراق اللعب
لقد صار صنما للفائزين
و معبودا للتعساء على وجه البسيطة
ماذا لو سقط الصنم
ماذا لو عجز عن تحقيق الفوز
إلى يوم الدين
تصارعت تلك الأفكار في رأس الثاني
بينما انتزع الأول قبعته
و مررها على جبينه و رأسه الأصلع
ليزيل قطرات العرق التي تراكمت
لأول مرة منذ ولد
يشعر بالقشعريرة
يشعر بقلبه يرتعش في صدره
كانت أوراقه كلها بيضاء من غير سوء
كان معنى ذلك هو لا شيء
لكن فكرة واحدة سيطرت عليه
أن أي ورقة في يد صاحبه
هي الرابحة
لم يبد على وجهة لحظة العبوس
فهو لاعب ورق
و ليس طفلا يبك
نظر في عين صاحبه
و ابتسم
كان الثاني رجلا يعيش على معرفة ما في عقول البشر
من عيونهم
فهو لاعب ورق
بادله الابتسام
و امتدت يده لزجاجة النبيذ
ليصب كأسا آخر
لكن ارتعاشة في يده
حركت الزجاجة
فاضطربت لتسقط
و تتحطم فوق الأرض الرخامية
و ينفجر نهر الخمر الأحمر
كنهر من الدم
قرر الثاني لأول مرة في عمره الطويل
أن ينسحب
وفي نفس اللحظة التي رفع بها يده معلنا رفضه المواصلة
قرر الأول
لأول منذ سواه الله رجلا
الانسحاب
رفضا لأول مرة
كشف الأوراق
نظرا للثالث علهما يجدان الجواب عنده
أغمض ثالثهما عينيه
ابتسم
ثم انطلقت طلقتان من مسدسه
فقد كانا مجرد رجلين......يلعبان الورق

و كان ثالثهما

تمت
اللوحة:
لاعبي الورق-بول سيزان
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.