(إهداء: إلى العزيز وسام طالب أبو حشيش)
ركض الأطفال ومعهم كرة القدم العتيقة، حتى ظهرت أمامهم مقبرة مخلفات الجيش. كم ودَّ أن يرافق اصدقاءه مرة أخرى في اكتشاف المقبرة. حملق بهم وهم ينسلُّون عبر أي شيء أو طريق ليدخلوا مقبرة الخردة التابعة للجيش. رغم المشقة في التسلق دخلوا الى المقبرة، وتركوه خارجاً.
– وينك يا عليّ، وينك!؟
لكنه لم يستطع المشي، تسمَّرت قدماه، وشعر برجَّة خفيضة غير ظاهرة تصيب رجليه، ثم غمرته قشعريرة جعلت شعر ساعديه ينتصب. تركه اصدقاؤه ونادوه: وينك، وينك يا عليّ!!
– ديروا بالكم، أوعوو الجيش..
وقعت منهم كرتهم، سمعها تتدحرج.
كانت مقبرة خردة لمركبات الجيش الاسرائيلي التي علاها الصدأ، مجنزرات دون جنزير تنتظر معجزةً كي تحبو، وكذلك انتظرت أكوام من شصي سيارات شحن ومقاعد حديدية مهترئة وخزانات مياه ضخمة مثقوبة، ابراج عسكرية محروقة، ومنها واحد له درجات مكسورة وأخرى مفقودة، جيپات وسيارات أخرى، معظمها بلا إطارات او أبواب او زجاج.
عاد يحذرهم من السيارات العسكرية اللئيمة والغادرة فهو يميزها، كم تمنى ان يقول لهم انه ليس جباناً، لكن أمراً ما يؤلمه، تماماً مثلما يؤلمه انه تركهم.
لم يعودوا يسمعونه، اللعنة!
لأنه يحبهم وسيبقى يحبهم، سيدخل إلى المقبرة. لأنهم أصدقاؤه الذين تركهم، سيلحق بهم ويحذرهم. دخل المقبرة بكل سهولة، لحقهم وحذرهم، كرتهم وقعت من أحدهم، تدحرجت واتجهت صوب جيب عسكري بلا إطارات وزجاجه الخلفي يحمل ثقباً هوائياً. يقف الأطفال متوجسين، ينظر كل واحد منهم للآخرين، عليّ لحق بهم، وقف معهم ثم بخطوتين برز أمامهم. عليّ هو الچولجي في شلتهم، قال لهم: ما تقلقوا، راح أجلب الطابة!
اتجه نحو كرة القدم العتيقة والجيب العسكري. ركبتاه خائرتان، وعيناه ترقصان، وهو يمشي مرتعباً. فُتِحَ، على حين غرة، باب الجيب العسكري وقفز باتجاهه جنديان، عليّ، عليّ أخذ يركض، يركض هارباً من الجنود، عليّ سريع وخفيف الحركة، الجنديان يفشلان في الإمساك به فشلاً ذريعاً. يلف عليّ هنا وهناك ليصل إلى الكرة العتيقة. عليّ أمام الجيب، قرب الكرة العتيقة، يرى الجيب العسكري يضيء مصباحيه الدائريين الأماميين. يسقط تحت السيارات، يزحف، الطابة في يده الآن. يدعو اصدقاءه ان يهربوا، يقول لهم: راح الحقكم وين ما رحتوا، راح الحقكم وين بتروحوا!!
يهرب عليّ، تلحقه الجيب وتقف في منتصف الطريق، لكن عليّ يدور حول السيارات والبيوت ويتسلل بخفة وراء الجيب. ثمة فوهة بندقية تخرج من نافذة السيارة الخلفي. يهرب عليّ راكضاً عائداً إلى أصدقاءه، ثمة طلقات رصاص تأزُّ في الجو، يركض عليّ، حاضناً الكرة العتيقة، ومجرجراً على الطرقات المُغبَّرة المدمية عشر سنوات من عمره، ثقيلة، مخيفة، خطيرة، معقدة، صعبة، غير مفهومة. يعود بكرتهم إليهم، فلماذا يجثو عليّ على ركبتيه!؟ ولماذا أصدقاؤه كلهم يجثون على ركبهم حوله، ويبكون مثل الأرامل؟ تسقط الكرة العتيقة بينهم عند مؤخرة الجيب العسكري عديم الإطارات، ذي النافذة المثقوبة، يربتون على الكرة العتيقة كأنها رأس صديقهم الذي اشتاقوه وحبيبهم الذي تركوه، يبكون، يبكون بحرقة، ودموعهم حرّى وصدورهم ثقيلة ثقيلة..
– وينك يا عليّ، وينك!؟