الرئيسية » » قال لي الطبيب | فردوس عبد الرحمن

قال لي الطبيب | فردوس عبد الرحمن

Written By هشام الصباحي on الثلاثاء، 16 يونيو 2015 | 1:25 م

قال لي الطبيب بالنص: إمَّا أن تُشفَي من التعاسة والخوف، وإمَّا أن تبدعي. فاخترت الشفاء وتوقفت عن كتابة الشعر لمدة سنتين.
في إحدى حلقات برنامجي "على ضفاف الحياة" حكى لي دكتور خليل فاضل أستاذ الطب النفسي، عن مريض فنان عالجه من الإكتئاب، فكف المريض عن الإبداع، وبعد فترة ذهب إليه يصرخ: أعد لي اكتئابي!! وكأن الإبداع مرتبط بالمرض النفسي والألم. هذا ما يظنه الكثيرون."فليذهب إذن هذا الإبداع إلى الجحيم بدلًا من ذهابي أنا إليه" هكذا قلت لنفسي أثناء انقطاعي عن كتابة الشعر، ولكني فوجئت بعد انقضاء هذه المدة أنني أكتب من جديد ولكن بشكل مختلف تمامًا.
في ديواني الأول "هنا مقعد فقط" كنت أرى نفسي وحيدة، مهجورة، مرمية في الجحيم، منفصلة عن الحجر والشجر والماء، كنت أرى الشمس عدوة لي، والبشر جامدين ومصنوعين من مادة أخرى، العالم كله من مادة أخرى.
"قلبي ينقط على حجر البكاء
ولقد تعبت من احتكاك الروح بالحجر"
***
"الصفير الهائل الذي يبتلع أذنيك
الوهج المقيت الممتد في محاجرك
الطبول المزعجة التي تمتص رأسك
ماذا تفعل الروح المسكينة بكل هذا الضجيج"
إلى هذا الحد. كان الألم وكان الجحيم إلى أن يئست تمامًا واستسلمت لهما.
"عليّ الآن أن أراقب تحطمي بنظرات باردة
عليّ أن أرش ارتجافاتي تحت قدميّ وأضّجع بهدوء
لأن السماء لن تفعل لي شيئاً
والأرض لن تنبت أرواحاً أتسلّى معه"ا
هكذا يتآزر الكون على نفيي ..إلى أن أدركت أنه من نفس المادة التي خُلِقت منها:
"وعرفت أن التراب لحم
والماء لحم
والأحجار لحم
لحم حيّ رافقني على الطريق"
هذا كان أول ما كتبت بعد محاولاتي الالتحام بالأرض، بعد اعترافي بأمومتها ورحمها الذي خرجت منه.
أدركت أخيراً أن الإبداع ليس قرينًا بالتحليق وبجحيم الانفصال.
تستطيع أن تحلم وأنت على الأرض، تستطيع أن تمسك بسحر الخيال ـ هكذاـ وأنت طيني أرضي. الحلم أيضًا هو من نفس المادة الأرضية والخيال ليس فضاءً شاغرًا.
وقوفنا هنا لا يحرمنا متعة الخيال ولا سحر الأحلام. أنا أكتب الشعر الآن بالخيال المادي، بالماء والتراب والنار. تلك العناصر الأرضية.
في خيالي الناري مثلاً: لا أستعير نار الشعراء أو نار العاشقين، لا أستعير الرمز الناري أو الهوائي أو المائي أو الترابي بل أوغل في تلك العناصر نفسها، لا أنقل حديثًا عن حديث، بل أذهب إلى العنصر نفسه وأستحضره. هذا هو الفرق بين خيال المحلقين المنفصلين والخيال الأرضي الأقرب لتلك العناصر بل الملامس لها.
..الخيال الأرضي هو إيقاظ الطبيعة لا الحديث عنها من بعيد، هو ملامسة الماء والهواء والتراب والنار لا استنساخ الصور المرسومة هناك في كتب الأدب، أو في الأساطير. أطمح لقصيدة حية.. تمشي مثلي على الأرض، وتستحم بالماء، وتُحرق بالنارن ويذروها الهواء أحيانًا.
الزلطة المرمية على الأرض أبلغ لديّ من الصور المرسومة لها في كتب الجيولوجيا، لم أعد أحب استعمال الرموز، الرموز ميتة، لهذا أحاول الامساك بالأشياء نفسها، بجيناتها الوراثية، بوجودها.
ليت الأدب أو الفن ـ عمومًا ـ يفرغ اللغة من دلالتها الرمزية، يقطعها عن تاريخها ويأخذها عارية طازجة حية مولودة للتو بين ذراعيه.
حلمت بها في ديواني الأول "هنا مقعد فقط" وإن كنت ساعتها لم أستطع الإمساك بها هكذا.
"الكلمات حافية لا ترتدي إلاّ عريها
عليّ فقط أن أجربها هكذ"ا
"التورية عديمة النفع والرمزية يباس"
لكنه الخيال المادي المعجون بالماء والتراب والنار والهواء..

التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.