الرئيسية » » مقطع من رواية أشباح المدينة المقتولة | بشير مفتي

مقطع من رواية أشباح المدينة المقتولة | بشير مفتي

Written By هشام الصباحي on الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014 | 12:24 م

من أين أبدأ ؟ لا أدري، عندما أرجع للطفولة، لا أتذكر شيئا، أو لا أحب التذكر، أو أن الذكريات حاضرة دائما. لكن كيف نستطيع أن نخرجها من ذلك المكان الذي حاولنا طمسها فيه؟  ولدت في عائلة مجهولة، أقصد مَنْ كان من المفروض أن يكون أبي، ومَن كان من المفروض أن تكون أمي عرفت باكرا أنهما ليسا كذلك، وكنت أسمع واحدة من أقارب العائلة تقول لي: أحمدي ربك أنك وجدت عائلة تأويك؟ حمدت ربي نعم على ذلك، وحمدتهم هم أيضا، حمدت كل من كان يوجد في طريقي، لم أسألهما قط من هُما والدايّ الحقيقيان، وهُما لم يخبراني عنهما، وعن سبب تربيتهما لي، وكيف حدث ذلك، قبلت ما قررته لي الحياة، وقلت في نفسي كما جاءتني أتعايش معها، عرفت سر تواجدي ببيت السيد خالد، والسيدة خموسة، كان يملك قطعة أرض كبيرة في منطقة غرب الجزائر العاصمة، ويعمل برتبة "قايد" عند الإدارة الفرنسية، وزوجته كانت من أشراف المنطقة، أهلها من عائلة شريفة من أولياء الله الصالحين، وهكذا اجتمع لهم الرزق بالسلطة، وبالدين، ولكن يا لقسوة القلوب، لم يكن ينقصهم شيء، لا شيء تقريبا بالمقارنة مع أغلب الجزائريين في تلك الفترة كان سكنهم كبير وواسع، ومالهم وفير، ولكن كنت أشعر بقسوة قلوبهم، كانوا لا يُحبون إلا أنفسهم، ومالهم، وجاههُم، والناس مع ذلك مضطرين للتعامل معهم، أو خانعين يقصدونهم في كل كبيرة وصغيرة، ويعملون عندهم كالعبيد، أو أكثر، وتكهنت أن عائلتي تنازلت عني لهم بسبب الفقر كي أكون خادمتهم المُطيعة، لأني رأيت بعدها عائلات تقصدهم لهذا الغرض، أو لأنهم لا يستطيعون تسديد ديونهم، والسيد خالد كان يحب الفتيات الصغيرات يأتي بهن للخدمة، ويستطيع إلى جانب ذلك أن يفوز بهن في غرفة نومه يوم يشعر بالحاجة إلى ذلك..
حسنا كان ذلك في الصيف، كنت في العاشرة  أو الحادية عشر من عمري، نادى عليّ سيدي خالد ، وكان المساء، والشمس تغرب، أو بدت لي حينها كذلك "تعالي يا كلبة". نعم ناداني بالكلبة، لا أدري لماذا؟ فلم تكن تلك عادته أن يناديني بأي اسم كأني غير موجودة، كأن تنادي شخصا باسمه فهذا اعتراف بأنه يوجد وله كيان مستقل،  لكن تسميته لي بالكلبة لم أفهم ما وراءه حينها حتى جئته مُسرعة، ولا هثة، وعرقانة من الخوف.
 كان يوما مُتعِبا حقا ذلك اليوم، من الصباح، وأنا أنظف، وأغسل، وأمسح لم أرتح لحظة واحدة، واكتمل كل شيء عندما نادى عليّ، وجئته صاغرة، دفعني إلى أن أسير أمامه ففعلت، وأمرني بفتح باب غرفته ففعلت،  ثم قال: هيا تمددي على السرير فتمددت، ثم: اخلعي ملابسك فخجلت، واحمرت وجنتيّ، وصمََتُ، فعاد وكرر الأمر بصوت مرتفع هستيري هذه المرة "قلت لك اخلعي كل شيء" وزاد عليها "أيتها الكلبة ألا تفهمين" ففهمت، أو لم أفهم، فقط فعلت ما طلبه مني، وهناك شاهدته يخلع ملابسه الكثيرة، برنوسه البني، وقميصه الأبيض، وشاش رأسه الملون بالأسود والأبيض، وسرواله العربي، وسروالا قصيرا  من القطن كان يستر به عورته، فيظهر لي عاريًا ، وذلك الشيء الذي لم أكن أعرف حتى اسمه منتصبا نحوي، وراح يقترب مني، وهو يفتح فخذيّ ببطء أول الأمر، وعندما  شاهد تخشبي  وتجمد جسمي، راح يفعل ذلك بقوة دون أن يمنحني أي فرصة حتى للصراخ إذ كمم فمي براحة يده الغليظة، وتمكن نهائيا مني، حتى أحسست بذلك الشيء الذي لا يسمى يخترقني فجأة، ويتوغل بداخلي، وبصوته الخشن يتأوه، ورائحة عرقه تزكم أنفي، لم أعرف بما شعرت، أو أحسست بلا شيء كأنها غمامة سوداء غطتني، وأفقدتني الوعيّ، وعندما استيقظت، لا أدري كم غبت عن الوعيّ، وجدتني في المكان الذي أنام فيه كل ليلة بالقرب من بيتهم الفخم ممدة على حصيرة من أوراق الحلفى، ونقاط دم كثيرة تلوث المكان وجسمي..
أشياء كثيرة حدثت بداخلي ليلتها، وخلال كل الليالي التي تعرضت فيها لهذا العقاب الأليم حتى أصبح طبيعيا للغاية، وعاديا كذلك، وبخاصة عندما حاولت أن أخبر السيدة خمُوسة، أو أنبهها إلى ما يفعله زوجها الحقير معي فلم أحصد منها إلا تلك النظرة القاسية  التي وجهتها لي فجعلتني أصمت صمتًا طويلاً لا أتكلم بعده أبدا ..
في النهاية تتقبل حياتك كما اختيرت لك من طرفهم دون أن تقدر على فعل أي شيء، فلا أحد يمكنه أن تشتكي له سوء حالك، وتدرك شيئا فشيئا أن الأمر لا يخصك لوحدك، كنت عندما أخرج للتسوق مثلا لشراء حاجيات البيت الضرورية ألحظ الفرق بين الجزائريين البؤساء من نوعي، والفرنسيين القلائل الذين يتحكون في حياتنا، ورزقنا، وأقدارنا، أظن لا نحتاج لعلم، أو ثقافة كي نفهم أو نشعر بالحقد على هؤلاء جميعاً..
ربما تغير حظي يوم شاهدت تلك المدرسة الصغيرة الواقعة على طرف مدينة "دلس" يوم رأيتها، ورأيت بعض الأطفال المحظوظين من الجزائريين الذين يتوجهون للمدرسة جنبا إلى جنب مع فرنسيين إقشعرت روحي، واهتزت أوتار قلبي، وبلاوعيّ وجدتني أنظر إليهم بحسد وحسرة، ومرات أقف طويلا بالقرب من الباب، وأتجسس عليهم ماذا يفعلون هنالك؟ ماذا يقرأون؟ وما هي هذه الكتب، والأوراق التي يحملونها بين أيديهم؟ أسئلة لم تكن عندي الإجابة عليها حينها ، لأني كنت أطرحها بصمت، وبلا كلمات تقريبا. كانت مثل أشياء تبرق في الذهن، وتترقرق في الوجدان دون أن تتجسد في جُملٍ صالحة للاستفهام.
ثم حدث، وأن لاحظ وجودي رجل فرنسي يرتدي بدلة أنيقة، وعلى وجهه سمات الطيبة، أو هذا ما ظهر لي من ملامحه يوم رأيته يتقدم مني، ويسألني عن إسمي فقلت: زهية. ابتسم لي، وأعطاني بعض الحلويات، ثم قال لي من جديد: لماذا لا تدخلي وتتعلمي عندنا؟ بدا لي سؤالا غريبا منه، قابلته بصمت، ثم هرولت راكضة من المكان الذي كنت واقفة به، كأني خفت أن يعرف السيد خالد ما حدث، ويعاقبني.
عدت مرات قليلة بعدها لذلك المكان، لأن شيئا قويا كان يدفعني لذلك أن أقف أمام باب المدرسة وأنظر، أو أنتظر حتى جاء الرجل الفرنسي مسرعا مرة أخرى نحوي:
 - لن أتركك هذه المرة تذهبين حتى تخبريني من هي عائلتك؟ لكي أعلمهم بأني سأسجلك في المدرسة.
 لاحظت نظراته المستغربة لوجهي ولعيني؟ لم أشاهد نفسي قط في المرآة، وشكلي لم أكن أعرفه، بشرتي سمراء بالتأكيد، ولون شعري أسود، لكن لون عينيّ فلا أعرفهما، ولم يخبرني أحد بذلك، هل أنا جميلة أم قبيحة؟ وحدها المرآة كانت قادرة على أن تفعل ذلك، ووجه هذا الفرنسي الذي راح ينظر إليّ بإعجاب، وبسحر كأني فتنته، وأنا لم أكن قد تعديت الثانية عشر بعد.
صمتُ كعادتي، بقي هو يتفحص وجهي، ويطرح عليّ أسئلة كثيرة، ودقات قلبي تتسارع فجأة، ومخاوفي تكبر بسرعة، يا له من رجل طيب، آه، لو يأخذني معه، على الأقل هو أصغر سنا من سيدي خالد، ويبدو حنونا بعض الشيء، لكن هذه الخواطر سرعان ما اهتزت، أو تزلزلت، وأنا أسمع صوت السي خالد خلفي يصرخ: ماذا تفعلين هنا يا كلبة؟ وجاء ليصفعني، لكن الفرنسي أمسكه من يده، ومنعه عن ضربي، وراح يصرخ في وجهه:
-         كُف عن ذلك، إنها فتاة صغيرة وتريد أن تتعلم، ظننتك من صفنا يا سي خالد، وتقبل تعلم بناتك في المدرسة.
طأطأ السي خالد رأسه فجأة، تصاغر حتى لم أعد أراه، وبصوت منخفض رد:
-         إنها خادمة بالبيت..
-         وما المانع، دعها تدرس.
-         لا، هي خادمة لا يجب أن تتعلم.
-         من قال ذلك؟ أنا معلم هنا، وأعرف من يرغب في التعلم، ومن لا يحتاجه؟
-         عفوا يا مسيو جيرار أنا.. 
-         لا تقل شيئا، وإلا أخبرت الكولونال،  وهو يعرف كيف يخاطبك.
تهديده غير المباشر جعله يصمت فجأة، وانصاع لكلمات هذا المسيو جيرار الذي قال له بصوت غليظ:
-         غدا أريدك أن تحضرها بنفسك للمدرسة، وتسجلها.
ثم تركنا نعود معاً سمعت سُبابا كثيرا في الطريق، وأحسست بلطمات مروعة على الخدين، لكن لم أكن أدري لماذا لم تعد تؤثر فيّ كل تلك الأشياء، وأنا أشعر بأني غدا سأكون مع هؤلاء المحظوظين، والمحظوظات اللواتي يدرسن، وبفضل هذا الشخص اللطيف المسيو جيرار.
لسوء حظي أني عندما بدأت الدراسة انتفخ بطني، وهو شيء لم أفهمه حينها، وعندما لاحظ المسيو جيرار أخبرني بالأمر قائلا: أنت حامل، ودون أن يشرح لي كثيرا فهمت ما حدث لي، قرر أن يأخذني إلى المستشفى لكن الأطباء رفضوا إجهاضي واعتبروا الأمر سيئا، وحده جيرار الملحد راح يُدافع عني بحجة أني فتاة صغيرة ولا أستطيع لا تربية ولا تأمين حياة شخص جديد، إحساسي بالذنب جعلني أفعل ذلك لوحدي، وأتذكر كيف حدث ذلك، حيث أخذت قضيبا من حديد، ورحت أضرب بطني ضربات متتالية وعنيفة، وأنا أصرخ وأتألم، وأفقد وعيّي عدة مرات، ثم أستمر  دون توقف حتى شعرت بأني أنزف دما كثيرا أسفل بطني، وبعدها فقط سرت متثاقلة ومنهارة لبيت المسيو جيرار الذي أخذني من جديد إلى المستشفى، وهنالك أسعفوني وقد تخلصت من حمل ثقيل.
قرر جيرار أن أعيش معه في بيته الذي كان يطل على البحر.. لقد بدأت حياتي من تلك اللحظة.. صحيح كنت أخدمه كما فعلت مع السيد خالد لكنه لم يكن يأمرني بشيء، وكان يساعدني في التعلم والدراسة، وحتى قراءة الكتب فمكتبته كانت عامرة بالقصص والدراسات التي ما إن بدأت أقرأ حتى رحت ألتهمها إلتهاماً..
خمس سنوات قضيتها في بيت المسيو جيرار كانت كافية لتحدث بداخلي ذلك الانقلاب الكبير فترفعني إلى أعلى، وتعيد ترتيب تفكيري من جديد، وعبر تجربة الحياة في بيت هذا الفرنسي اكتشفت كيف أن الذهنيات مختلفة، ونمط العيش مختلف، ويا لها من صدمة أن تستفيق على وعيّ من هذا القبيل.
تستيقظ وتشعر بالتمزق والحيرة ودخان الألم يتبخر ويتكثف في سماء مغلقة لكي يخنقك من جديد .. أظن هذا ما حدث معي، ولأول مرة شعرت بأني صرت ناقمة على الوجود، وأفهم حتى ماذا يعنيه جيرار بعدم ايمانه بأي شيء إلا ما نعيشه في الحياة.. فأنا أيضا لم أكن مؤمنة، وكيف تؤمن عندما تكتشف منذ صغرك قهر الناس لك، وضعك المأسوي المرتب لك كي تقبله بصمت ذليل.
لقد تقبلت كل شيء، وحتى أن أكون عشيقة جيرار لأنه وقف معي في النهاية ضد قدري، وعرفت سر إعجابه الغريب بي فلقد كانت لي عينان زرقاوان، وبالنسبة له تصور أني مزيج من علاقة جمعت بين أوربي وجزائرية، أنني ذلك الخليط الذي ينتج في تلك المرحلة لعنته الخاصة.
لكن كان الفرق واضحًا فجيرار لم يكن يغتصبني، كان يفعل معي الحب  كما يسميه، وحين أريد أنا أن يفعل. كان يطلب الإذن قبل أن ننتقل إلى غرفة نومه، ومعه ترمم صدع الانشقاق الداخلي، فلقد كانت ممارسات السي خالد كافية لتحطيمي نفسيًّا، وقهري روحيًّا وجسديًّا، وجعلي شيئا لا معنى له، امراة منكسرة إلى أن تموت، وموت امرأة هو حدث تافه لا معنى له في دنيا الرجال حينها.
كانت الثورة التحريرية قد انطلقت، سمعنا عنها بعض الأخبار وحتى جيرار المثقف والمتعلم والملحد لم يصدق ذلك، لقد كان يقول: الجزائر  بلدي أيضاً، مؤكدا على أنه ولد فيها، ووالده كذلك، وجده كان المهاجر الوحيد، لم أكن أرد عليه لأنه لم يكن يناقشني، هذه مناجاته مع نفسه، هُنا لا أُصبح موجودة، وعليّ تقبل ذلك كذلك، لأني في النهاية لا أدري من أنا. والجزائر هذه التي يتصارعون حولها لا أعرفها ولم يشعرني أحد بأهمية أن أعرفها، لقد ولدت في عالمهم ذاك حيث الأقفاص تسد عليّ منافذ الخروج، وحتى نوافذ الحلم.
في تلك الفترة كان يزور بيت جيرار كبار شخصيات المدينة الكولونيل ومفتش الشرطة ورئيس البلدة وبعض رجال الأعمال ويتحدثون فيما بينهم عن كل شيء  خاصة عن هؤلاء الثوار الذين يطلقون عليهم نعوتا متعددة كالمتمردين والعصاة والمشاغبين، وكان عملي أنا أن أهتم براحتهم الغذائية، وتحضير الشراب فيسهرون حتى وقت مـتأخر من الليل ثم ينصرف كل واحد لبيته.
لم أستطع مفاتحة جيرار في القضية، كما لم أستطع أن أسأله لماذا هو غاضب وحزين. ألم يقل لي دائما أن الظلم سيء، والعدالة هي أحسن ما في الوجود، أليس هذا ما كان يدرسنا إياه، وهو يتحدث عن أفكار فلاسفة التنوير روسو وفولتير ومنتيسكو؟ لماذا الآن يشعر بأن هؤلاء الذي يحاربون الامتيازات والظلم مجرد برابرة يهددون الحضارة؟ وإذا كان هو يشعر بأنه يعيش في الحضارة فماذا عني أنا التي ولدت في الجانب الآخر من هذه الحضارة فماذا عني أنا التي ولدت في الجانب الآخر من هذه الحضارة؟ لماذا لا يفكر فيّ؟ وفي حقي أنا في أن أعيش حياتي بحرية، وكرامة، وعدالة.
أسئلة كثيرة لم أطرحها عليه، وهو لم يفاتحني في الموضوع فبقيت علاقتنا كما كانت من قبل لكن زاد حجم الصمت فيما بيننا، وحتى الحب كنا نمارسه بصمت فلا حديث، ولا كلام، لا شيء غير أن يقوم هو بدوره، وأقوم أنا بدوري، وأستمر الأمر على هذا الحال حتى التقيت ذلك الشخص الذي تقدم مني وسلم لي ورقة مطوية، ونصحني بحرقها عندما أتمم قراءتها.
كان شابا في الرابعة والعشرين من عمره وسيمًا في شكله، وذكيا كما يبدو من حركاته، وعندما سلمني الورقة ابتسم لي، ووضع يده على يدي ليطمئنني، أخفيت الورقة في محفظني، وعُدت للبيت مهرولة، وهناك فتحتها على عجل، لم يكن بها إلا بضعة جُملٍ قصيرة " نريدك أن تعملي معنا، نحن من سيحرر الجزائر، تحيا جبهة التحرير الوطني".
هكذا صرت مُجاهدة معهم.  في البداية اقتصر عملي على نقل كل النقاشات التي تدور في بيت المسيو جيرار، وعندما بدأت أستمع إلى أحاديثهم شعرت بسعادة أني انضممت لصف المجاهدين فهؤلاء لم يفهموا قط هذا البلد، ولا شعبه، ولا تاريخه، وهُم يفكرون في مستقبل مصالحهم لا غير ..
نقلت الأخبار أول الأمر لذلك الشاب الذي سيعرفني باسمه قائلا: ناديني عمر يا أختي زهية. فأصبح عمر خلال سنتي الأولى صديقي الوحيد الذي أنقل له كل الأخبار ويطمئنني هو على مسار الثورة.
في العام الثاني، وبعد أن صرت مأمونة من طرف الثوار في الجبهة، ومعترف بقيمة ما أسديه من خدمات لهم طلبت من عمر أن يُحقق لي أمنية فسألني ما هي؟ فقلت على الفور: اسمحوا لي بتنفيذ عملية قتل الخائن السي خالد، قال لي: لم يحن دوره بعد، فألححت: هذا طلبي الوحيد. بعد أسبوع قبل طلبي، أخذني عمر معه ليلاً إلى بيت ذلك الكلب، ودخلنا إلى غرفة نومه، ووجدناه، يا للعار مع فتاة صغيرة ذكرني  ذلك المنظر بكل تلك الليالي الشقيات التي عشتها معه.
 قال عمر:  حكمت عليك الجبهة بالموت أيها الخائن.
 بينما كنت أنا أطلق الرصاص على جسمه الضخم، وأثقبه من كل جهة، وأنقذ الفتاة الصغيرة من مخالبه الوحشية.
كان ذلك الفعل الانتقامي، والذي أُعتبر في سياق تلك المرحلة ثوريا من طرفهم أمرا حقق بداخلي فتحا عظيماً، كأني فجأة صنعت أسطورتي حينها، أو حققت ثورتي الحقيقية على من ظلمني..
عمر تقرب مني أكثر أيامها، وشعرت بأنه صار مُغرما بي، ولا أخفي أني وجدت فيه روحي التي أنصفها القدر للحظة، وتعلقنا ببعض، بل صرنا روحا واحدة في علاقة تختلف جذريا عن علاقتي بجيرار الذي لم يقل لي يوما "أحبك"، وهي الكلمة التي نطق بها عمر في أيام تعارفنا الأولى بصدق أدهشني.
لقد عرفت الحب لأول مرة مع هذا الشاب الثوري الذي كان يعمل قبل الثورة حمالاً  في الميناء، ثم صار نقابيا لأنه يفهم قليلا في السياسة وحقوق العمال، وأخيرا سارع للالتخاق بجبهة التحرير لانقاذ البلد من هذا الاستعمار الطويل، وهو لم يكن يحتاج معي إلى خطب رنانة كي يقنعني بأن هذا الوضع المزري الذي نعيشه نحن الجزائريين يجب أن ينتهي ويتوقف، فلقد كان الجرح منقوشًا في كهوف أرواحنا كما على تضاريس أجسامنا، وحاضرا لكي يبزغ في داخلنا كشمس مشرقة تدلنا على طريق الوضوح.
في قلب الثورة وعشقنا الملتهب جاء قرار من الجبهة يطلب من عمر أن يسافر إلى تونس في مهمة مستعجلة.
 تحدثنا قبل سفره قليلا، ووعدني بأن نلتقي من جديد بعد أن تنتهي مهمته تلك، وأرسلوا لي شخصا آخر للتعامل معي، ثم طلبوا مني أن أذهب إلى العاصمة، وألتحق بخلية تنشط هنالك فقبلت ذلك، لم يكن هنالك أي مجال لرفض في تلك الفترة، وكانت آخر ليلة لي في بيت المسيو جيرار الذي قررت مواجهته بأفكاري فبدا مندهشا من تعبيري عن رأيي بصراحة في الاستعمار لكنه بقي صامتاً لوقت طويل، شرب عدة كؤوس من نبيذه الفاخر ثم أخبرني بدوره أن قرر مغادرة هذا البلد نهائيا فإذا أنا أفكر فيه كعدو فهذا يعني أن لا مكان له في هذه البلاد. بالرغم من كل ذلك حاول أن يمارس معي الحب لكني رفضت وأخبرته بأني أعشق جزائريا اسمه "عمر" ظننته سيغضب أو يثور لكنه لم يفعل شيئا مُحددًا، بقي على حالته المنكسرة تلك بشعور من فقد وطنا بأكمله في لحظة معينة.
في الصباح كان نائمًا عندما قررت مغادرة البيت، إنتابني شعور حزين، وأنا أنظر إليه مُمددًا على السرير  ذلك أني لم أنس أبدًا أنه في لحظة من الزمن تطوع بمفرده لإنقاذي من حياة لا أدري إلى أين كانت ستقودني، لقد طبعت قبلة على وجنتيه، وانصرفت.
ذهابي للعاصمة جعلني ألتقي برجال ونساء كثيرات كانوا يتحركون في الخفاء، ويحاربون العدو الذي كان أكثر قوة بالتأكيد، وجدتني فجأة في مُهة داخل بيت دعارة من قرر المهمة أشاد بخاصية ستساعدني على أداء دوري على أكمل وجه ألا وهي جمالي، وأن هذا من شأنه أن يجعل الفرنسيين يثقون بي حتماً، ويفضون بأسرارهم لي، لم يقلها بدناءة، أو إحتقار، قالها وكفى، كما لو أنها شيء عادي، وبدوري لم أرفض، ربما لسبب عميق بداخلي أشعرني أن جسدي لم يكن ملكًا لي، وهو شعور غريب وعنيف، منذ تملكه الكلب السي خالد، وكان يفعل به ما يريد دون أن يكون لي أي حق في الاعتراض أو الرفض، إن تجربة كهذه تتركه بصمتها للأبد على ما أظن، ومنذ استباحه جيرار بلطفه وعاطفته الطيبة نحو من أشفق عليها لا غير، اصبح هذا الجسد لهم ، وليس لي، لأنه لم يكن ملكي من البداية، ولهذا أن أعمل في بيت دعارة فلن يغير ذلك من طبيعة الحياة التي أعيشها، ولم أخف إلا من غضب عمر الذي كان يريدني زوجة له، نعم زوجة يتزوجها، ويعيش معها، وهو يتخيل أن حياتنا ستكون سعيدة بعد الاستقلال، سننجب أطفالا ويتربون في عالم يتنفس عدالة وحرية.
قبلت مهمتي دون مناقشة التفاصيل، وشيئا فشيئا صار دوري مهما بالفعل، لقد كان الجنود والضباط الفرنسيون يأتون للشرب والاستمتاع ونسيان حربهم ضد شعبنا، وكان شعورهم عندما يمارسون الجنس مع عربيات كأنهم يستعيدون شرفهم الضائع في مكان ما من هذه البلاد، أو ينتقمون منا بهذه الطريقة، لم يكونوا يبحثون عن مسكرات ولكن عن شيء يجعلهم ينسون ما يفعلونه في الصباح أو في مهماتهم ضد أناس عزل، وكانوا يحكون قصصهم تلك، وكان كل ذلك يجعلني أكرههم أكثر، وأحقد عليهم بشكل أعظم، ففي قمة رغباتهم الجنسية تجدهم يبكون أحيانا لأنهم فعلوا كذا بشيخ هرم، أو طفل صغير، أو امرأة نزعوا ثيابها أمام أبنائها حتى يشعروا الجزائريين بأكثر المهانات التي لا يحتملونها، يا للوقاحة، كانوا فخورين بنذالتهم تلك، لكن كنت أسجل كل المعلومات، كنت أعرف أن تلك المعلومات ستنقذ مُجاهدين من الوقوع في أيديهم، كما تجعلهم يعرفون ماذا يُخطط لهم؟ استمر الأمر ستة أشهر على هذا الوضع حتى أني صرت أحس بتمزق عنيف، وصُداع مؤلم في رأسي يتكرر كل ليلة كأني لم أعد أحتمل هذا الشيء الذي أقوم به فجأة، فلم أكن متعودة على حياة الدعارة تلك، كل ليلة مع أكثر من شخص، مع شرب النبيذ دون رغبة ، وبقدر ما كنت متماسكة لأن الذين أعمل معهم كانوا يقفون معي ضد هذا الإحساس بالمهانة، ويحرصون على رفع مشاعري الوطنية، وتقديس دوري البطولي فلقد كان ذلك ينقص من إحساسي أني أفقد إلى جانب جسدي روحي أيضاً..
كنت أركز بشكل خاص على حبي لعمر، وأنا أتساءل أين هو الآن؟ ألم يفكر حتى في كتابة رسالة يطمئنني فيها عليه؟ أم تراه نسيني الآن لأنه في تونس، بلد حر، ونساءه أخذنه إلى عالمهن، فكف عن التفكير في.
تفكيري في أحلام عمر، ووعوده بالزواج وإنجاب الأطفال، والسعادة في بيت عائلي بعد الاستقلال أشياء كانت ترفع من معنوياتي، وتحديّ لهم.. اعتقدت حالمة أن الحياة ستبتسم لي في النهاية، وستكافئني على هذا الشقاء اللعين..
جاءت الأوامر أن أترك بيت الدعارة، وأعود إلى خلية العاصمة التي بدورها أرسلتني إلى الجبل في الأوراس حيث يمكنني أن أساعد المجاهدين في عملية الإسعاف الطبي، ومن الأوراس إلى تونس في مهمة مستعجلة لنقل بعض الأخبار للقيادة هناك.
فرحت عندما أوكلوا لي هذه المهمة فثلاث سنوات مضت على آخر لقاء لي بعمر، وهُم أخبروني أنه يشرف على وحدات قتالية بذلك البلد، وطرت من السعادة قائلة:
سألقاه أخيرا ذلك الحبيب، والعزيز على القلب.
هذا ما ظننته في البداية، لكن لم أجد له أثرا في تلك البلاد الصغيرة، سألت الكثيرين عنه فلم يقولوا شيئا، وأحيانا كانوا يخترعون أكاذيب، ويرمونها في الهواء، لا تعرف إن كانت صحيحة، أم مجرد أخبار لا أساس لها من الصحة.
أظنني حينها فقط تألمت بعمق، وفقدت قدرتي على فعل أي شيء، دارت بيّ الأرض سبع دورات ثم أغميّ عليّ، نقلني أحدهم إلى المستشفى، وتركوني هنالك لفترة نقاهة طالت، طالت حتى أني عندما صحوت بالفعل، أو رغبت في الخروج من المستشفى وصلني خبر استقلال الجزائر عن فرنسا...
عدُت لبلدي منكسرة وسعيدة، مزهوة ومجروحة، والناس مبتهجة، وأنا أبحث عن عمر لا غير، إن وجدته فذلك ما سيجعل سعادتي تكتمل، وإلا فلن تكون فرحتي إلا مبتورة ومنقوصة وبلا شفاء عاجل لها.
لم أجده في أي مكان ذهبت أسأل فيه، كنت أجد الترحيب والتكريم فلقد كانوا يعرفونني ويقدرون دوري لكن لا أحد يعرف أين ذهب عمر وأين اختفى حتى عائلته التي وصلت إليهم بشق الأنفس شاركوني البكاء اللعين فقط، وقالوا إنهم سمعوا باستشهاده في معركة بالجبل.
لم أعرف الحقيقة إلا فيما بعد، من شخص سيقولها لي، ويستحلفني أن لا أخبر أحدًا بها، وأن لا أذكره هو فوعدته بذلك وأنا أقسم له وأكرر القسم فقال لي: لقد قتلوه. فصرخت في وجهه: من قتله؟ فرد: هُم، أقصد نحن، عفوا، قيادي في الثورة.
لم أفهم جيداً، لم تكن الثورة بريئة من دماء أبنائها، كنت أعرف ذلك، وسمعنا الكثير عن التصفيات، وحتى القتل العشوائي، كنا نقول بيننا وبين أنفسنا هذه هي الثورات يحدث فيها كل شيء، لا شيء مقدس ولا شيء مُدنس، لكن عمر ماذا فعل؟ ولماذا أجهزوا عليه؟ كان مع الثورة من البداية، كان مؤمنا بها، ومخلصاً لها.
 ردّ الشخص بحزن :
-  للأسف ربما هذا الإخلاص هو الذي جلعه يدفع الثمن. حسنا، سأخبرك شيئا مُهما، هناك من كانت عينه على الثورة والاستقلال، وهناك من كانت عينه مصوبة لما بعد الثورة ، وماذا يمكن أن يستفيد منها، وكان على طرف أن ينتصر على طرف آخر.
لم يقل شيئا آخر، الاستقلال هو الذي غطى على كل شيء بعدها، مسح الدموع، وترك العيون التي تذرف دون أن تجف، إنه انتصارنا الكبير الذي حققناه على عدونا لكن ثمنه كان فادحا على البعض، أكثر من البعض الآخر..
هذه هي قصتي الأساسية لأنه بعد الاستقلال لم تعد هنالك قصة بل جثة تعيش، ولقد أيقظت فيّ شهوة الحياة والحكاية بعد أن تركتها طويلا منسية ومهملة، لأنه ما فائدة تذكر كل هذه الأحزان إلا إذا كنا مجرمين ضد أنفسنا، ونريد تعذيبها يومياّ فقط.



..
التعليقات
0 التعليقات

0 التعليقات:

إرسال تعليق

يتم التشغيل بواسطة Blogger.