من لطائف الأيام السابقة على الأعياد -بالنسبة لي- في مصر لحد كام سنة فاتت: متابعة المتسولين الموسميين (الفنانين) اللي بيظهروا بكثافة في الشارع لاستحلاب فلوس أفراد الطبقة المتوسطة العمياء الكسولة.. والمطمئنة بسذاجة (تستحق التنكيل بها فعلا والله) لحماية طبقيتها التافهة.. كنت انتظر بشغف تلك "النمر" الجديدة المستحدثة اللي بيبتكرها ولاد اللعيبة دول.. وبيتحايلوا فيها بفن حقيقي لتلبيس وقلوظة عمامة فعل الخير السهل غير المسؤول على المتسرعين السذج.
كان فيه واحد مثلا متوسط العمر بيظهر في "ميدان الجامع" في مصر الجديدة.. كان بيقابلك بعد منطقة محلات الجزارة بشوية (حلو المكان كمان قوي.. صح؟).. كان بيبقى لابس كويس.. مش غالي.. لكن على حدود السترة بدقة.. بيقف فارد طوله بصعوبة بين عربيتين راكنين قبل التقاطع.. ووسط خنقة الزحمة.. وأثناء تلهيك بالفرجة على الشارع هربا من الانتظار الطوبل ورا الدريكسيون ستقع عينك عليه بالتاكيد.. وأول ما الـ Eye contact تحصل مع الزبون.. كان الرجل بيبتدي يعمل الشو البانتومايمي العظيم بتاعه.. فبتلاقي جسمه وكأنه بيرتعش بما لا يلاحظ (إلا للضحية طبعا).. وبيتداعى (حرفيا) ببطء.. وكأنه تحت ضغط مرض ما.. أو نتيجة لجوع مستمر لعدة أيام مثلا.. وإيده بتتمد بالراحة وهي تستغيث في الفراغ.. في انتظار عون إلهي ما يحمي جسده من السقوط أو الانفراط.. وتنضغط ملامحه أثناء ما نظرته كانت بتنكسر أكتر.. وقبل الانهيار النهائي بلحظات يتماسك فجأة.. وكأن عزة نفسه تمنعه من ذلك "الانهيار" مهما كانت الظروف أمام الناس: بما سيبعتر كرامته واعتزازه الأصيل بنفسه.. وهو بالطبع ما لن يسمح له بالحدوث أبدا.. كان "الشو" محبوكا ومتدرجا بحسبة تراعى بدقة العامل الزمني والفرصة المحدودة قبل معاودة انسياب المرور.. طبعا كانت الرسالة توصل كاملة للزبون من دول.. فيقتنع نفسيا بانه قد أُختير لسبب قدري لمساعدة هذا الرجل ذي الكرامة الكاظم على ذله ومسكنته باعتزاز بالنفس يليق بعظيم أخنى عليه الدهر.. وأنه بُعث إليه (هو فقط) ليوهب عَبره ثواب الله غير المحدود.. ساعتها ستجد أن "العميل" سيكاد ينط هو بنفسه خارج سيارته ويلحق بالرجل ليضع في يده اللي فيه القسمة بأي طريقة.. ولينتشله هو وحده -والحمد لله على الاختصاص دا- من مصير لا يستحقه..
الفنان دا ما كنتش باشوفه هناك غير في الأعياد وما حولها.. وكنت بانبسط به جدا.. واختفى من بعد الثورة..
طبعا كان فيه أساليب تانية مش محتاجة أداء طويل ومعقد (بس دمها خفيف) كـ "الشحاتة الخاطفة".. بتلاقيها في وسط البلد في الأغلب.. يقترب منك رجل يماثلك في السن.. في الأغلب بينقى اللي قده في السن علشان التعاطف الجيلي وكدا.. وبيكون مظهره كويس.. وفي حالة نفسية عالية (تقريبا تقدر تقول متقائلة حتى) لدرجة انك لن تتصور أبدا إنه طالب مساعدة.. بالكتير هاتقول جاي يسألك عن عنوان.. أو يولع منك سيجارة.. فيطلب منك بشنب مبتسم مساعدة محددة (خمسة جنيه مثلا) علشان عنده ظرف طارئ كدا (بلا تحديد حتى للظرف دا).. فيخطفك في لحظة.. وتلوح لك مدى القسوة اللي ممكن ترتكبها لو كسرت نِفس زميل جيلي وطبقى مزنوق بشكل استثنائي يستحق التعاطف.. وماينفعش تسيبه "يسقط " نفسيا علشان كام جنيه تافهين.. خصوصا وهو في حالته المعنوية العالية دي..
للأسف المتاح من الفنانين المقنعين في اسلوب الشحاتة دا بالذات بقى نادر.. وأغلب اللي بيشتغلوا فيها بقوا مؤديين.. مش فنانين زي زمان.. وشاعت جدا بما انتهكها..
طبعا كمان ماننساش أسلوب "الأكل المدلوق": فتلاقي شاب صغير قاعد على الرصيف وحاطط راسه بين إيديه وعمّال يعيط على -مثلا- كميات من البيض اللي متفشفش على الأسفلت حواليه.. أو علب الكشري المدلوقة.. قال وكانها وقعت منه.. وهو في حالة ارتياع من مصيره.. وعقابه من أصحاب المال.. فيترجل أصحاب السيارات الحنونين وينفحوه النفحة اللي تساعد في تحجيم مصيبته.. طبعا العرض هنا موجه بالأساس لأصحاب العربيات.. لأن المشاه بيبقى عندهم وقت اكتر لمقايسة مدى التصنع في الأداء.. وحجم الأكل القليل المدلوق اللي لو ركزت فيه هاتلاقيه كمان مرصوص بشكل يوحي بوسع العملية بشكل مفتعل.. مرة من كام سنة وأنا نازل مشي من منزل 6 أكتوبر على الحزب الوطني (المحروق دلوقت).. لقيت واد منيم العجلة بتاعته على الأرض.. وبيحضّر المسرح بهدوء مدهش: بيوزع بمزاج أعداد من البيض الممشش (بريحة واضحة جدا) في دايرة حواليه.. وكل شويه يبعد ويقعد يتفرج.. ويرجع يغير في وضع البيض كفنان حقيقي يجوّد في عرضه.. ولما وقفت أتابعه ابتسم لي بلطف واطمئنان عجيبين!!
والغريب يا أخي مع قدم الأسلوب دا وشيوعه.. إلا إن له زباين لحد دلوقت.. يحطوا للواد من دول الفلوس ويكملوا سواقة وهما هايفرقعوا من رضاهم عن نفسهم.. لحد دلوقت يا ولاد العرص..!! معقولة؟!!..
. .
العيد دا بقى معنوياتي في النازل خالص.. المتاح من العروض وحش جدا.. وغير المحترفين بهدلوا المناطق فمثلا:
أسلوب "سنّان السكاكين" الراجل العجوز اللي بيبقى شايل على ضهره المكنة الخشب المعروفة بتاعة سن السكاكين وواقف في الشارع منتظر حسنتك لأنه مش شحات.. لكنه صنايعي سئ الحظ.. انهارت مهنته اللي قضى فيها عمره كله بعد اندثار السكاكين اللي بتتسن زي زمان (زي ما انت عارف).. فأصبح من بعد امتلاك صنعة تأكله وتصرف عليه.. بلا أي مورد وهو في السن الرذيل دا.. وبالتالي فهو مش شحات ولكن ظروف الزمن أعيته ومساعدته واجبة لكل لبيب..
اليومين اللي فاتوا لقيت عيلين صغيريين.. وفي مكانين مختلفين شايلين المكن الخشب دا وماشيين يشحتوا بحماس.. وناسيين فلسفة الأسلوب دا !!!: عن إنك لازم تكون رجل عجوز فقد مهنته نتيجة التحديث الصناعي ولتغير الزمن.. ولا وقت عندك (كرجل عجوز برضه) ولا صحة لامتهان مهنة جديدة!!.. فالمساعدة لا مفر منها في حالتك كدا طبعا.. طيب يا ولاد الوسخة هاتقنعوا الزباين انكم كصبيان صغيرين كدا بتشتغلوا في مهنة انقرضت أساسا من قبل ما تتولدوا ليه وازاي؟!!..
حتى شحاتة الـ "عجز" الجسدي اتشلفطت خالص.. يوم الاتنين اللي فات.. وورا جنينة "الميريلاند".. في شارع "نهرو" كانت حركة السير بطيئة.. وكان فيه راجل عجوز ربعة بصحة ممتازة "راكب" عكازين خشب حاططهم تحت باطه.. ورجليه زي الفل ما فيهمش حاجة.. بس رافعهم لفوق شوية.. كان بيمشي يتمرجح فوق العكازين.. ويلقح جتته بالارتماء على شبابيك العربيات وطلب المساعدة بصوت عالي عجيب.. زي ما يكون حاطط زمارة في زوره.. بأداء مستسهل جدا لا يثير ولا يستحق أي عطف للحق.. الراجل دا كان بيعمل حاجة مذهلة وبكل علانية: بعد ما يخلّص العربية من دول (وقد فشل في كل العربيات أدامي) وعاوز يلحق اللي بعدها وبيلاقي سرعته بالعكاز مش ملاحقة.. فكان بينزل رجليه ويكمل مشي مع العكازين كمان.. والنعمة الشريفة كدا..
عند إشارة جسر السويس مع القبة.. أخيرا لقيت شحات كلاسيكي زي زمان: بهدوم مقطعة.. وتعبير وشه متذلل جدا.. كان بيقرب من شبابيك العربيات وهو بيضم صوابع أيده اليمين ويشير بها في حركة مكررة لبقه (كأنه عاوز ياكل مم يعني).. بس كل شوية يبعدها عن بقه علشان إيده الشمال ترفع سيجارة طويلة لشفايفة.. ياخد منها كام نفس ورا بعض يطلعهم من مناخيره بكثافة.. ويرجع يشتغل عادي تاني!!!..
. .
التعجل والزيف جابوا كل حاجة ورا يا ولاد الجزمة..
للأسف دلوق لا بقيت أنبهر ولا اتمزج من الأداء: اللي بقى بيفتقد القيم الأساسية لأي عمل فني: الجدة والابتكار.. وجدية الأداء..
فتحية لكل شحات لسه قابض على جمر مهنته.. ويعتبر ان الوصول للقمة مش هو المشكلة..
وتحية لكل شحات مجود ومبتكر يعرف أن مقتله في الوصول أساسا..
وتحية لأي شحات "يشقط" أي واحد عاوز "يشقط" العشرة أمثال ع السريع والطاير كدا
وكل سنة ومصر أمنا طيبة وبخير وسلامة