في نهاية سنوات التسعينيات، كنت في صباحات العُطلة أتمشى من منزلنا في شارع 68 إلى مكتب البريد الرئيسي بشارع 9 لألقي خطاباً في الصناديق القديمة ذات اللونين الأحمر والأزرق لصديقي المقيم في ألمانيا، ذلك قبل أن تنقرض الخطابات بفعل تطور وسائل الاتصالات، وقبل أن تختار هيئة البريد اللونين الأخضر والأصفر لصناديقها الجديدة. خطاباتي لصديقي كانت تحوي أخباراً شخصية كالتي يكتبها أي صديق لصديقه في رسالة، إضافة لأفكار حول الكتابة أو مشاريع نصوص أدبية باعتبارنا نحن الاثنين من "الكُتاب". فوق ذلك كنت أُرفق بها قصاصات صغيرة من الجرائد المصرية تحمل أخباراً أعرف أنها قد تهمه، ألصقها بمتن الرسالة بالصمغ الشمعي، وأحيطها بدائرة من الحبر الفوسفوري دون أن أعلّق عليها.. ربما كان من أكثر تلك الأخبار المقتطفة عمومية، هو "بوكس" صغير يحمل خبر موت المطرب الشعبي الموهوب"رمضان البرنس" غرقاً مع أفراد أسرته في ترعة المنصورية.
كي أصل إلى مكتب البريد بشارع 9 كنت أقطع الجزء البحري من شارع 10 بفيلاته القديمة ومدرسة الأزهار الابتدائية. بيوت هذا الجزء من الشارع أكثر تواضعاً من بيوت جزئه القبلي، أصحابها سُكان قدامى.. أذكر فيلا "ريف دو نوي" أو حلم الليل لصاحبها"حب الله الديب" والد الكاتبين الكبيرين بدر وعلاء الديب. بيت"ناشد نخلة المصري" وفيلا الدكتور "عصام" صاحب أول صيدلية في المعادي تعمل بنظام الخدمة الليلية.. عندما تدفقت أموال الهبات والتبرعات من السعودية وجهات أخرى على صناديق "الجمعية الشرعية" توسعت في استثماراتها العقارية واشترت بعض الفيلات القديمة بهذا الشارع القديم، وعلى أنقاض فيلا الدكتورعصام أُنشئ ملجأ إسلامي للأيتام واللقطاء. ما أن شب أبناء الجيل الأول من أيتام الملجأ عن الطوق حتى اقتحم أحدهم منزل "علاء الديب" ليجرده مما خف حمله وارتفع ثمنه. أمرّ بهذه البيوت في طريقي لمكتب البريد في صباح معتدل الطقس، ويمر برأسي بعض من حكاياها.. فإذا انحرفت يميناً لأدخل في شارع 9 مقترباً من مأربي أكون قد بلغت قلب المعادي النابض، وقد يتسنى لي التقاء أحد زملاء الطفولة يتبضع من المنطقة التجارية، وقد نقف لندخن معاً سيجارة أو فقط لنتبادل كلمات سريعة عن الأحوال، وذلك أيضاً قبل عصر التليفونات المحمولة، والمقاهي الحديثة التي غزت الجزء القبلي من شارع 9 فيما يلي مكتب البريد. ثمة أسطورة حضرية تقول أن المقر المركزي للبريد بأي مدينة هو نقطة الكيلومتر رقم صفر التي ينطلق منها القياس من تلك المدينة وإليها على طرقات السفر السريعة. ولطالما نظر سُكان المعادي إلى ضاحيتهم باعتبارها مدينة مستقلة إذا لم نغال فنقول دولة.
(من مقدمة كتاب "السابعة والنصف مساء الأربعاء")