قصرُ الثلجِ ما يزالُ قائماً 1-2
ياسين طه حافظ
القرى الصغيرة، رسوم ملونة منثورة في طريق البساتين. كلما مررت بها توقفت مثل من يتحرى شيئاً يعنيه أو شيئاً أودعه من زمن فيها.
مرةً، كانت الشمس تنحدر مثل ولية عهد منافقة تنظر بأبّهة، باشفاق متعال لا يخلو من شماتة، وهي تعبر القرى الفقيرة الى قصرها ويغلق الحرس وراءها البوابة الكبيرة.
كنت واقفاً مثل مندوب غير مقنع للمدينة. أحمل فقراً في مكان من داخلي، أو إدانة. هكذا الأمر دائما حين اقف امام البساتين. وحين مرَّ رجال القرى مناجلهم في الأحزمة ، ووجوههم محتقنة شمساً وتعباً، ازداد شعوري بذنب مجهول، بشهادة مزورة، ربما خيانة عهد! فاجأني سؤال، كنت دائماً أرجئ الاجابة عنه حتى مرَّ زمن ونسيته. هذا الغروب أوقفه أمام وجهي :
هل التف بالاضواء الاخيرة، بما تبقى من الشمس الغائبة، واقف بوجه الريح؟ أم أتحاشى الظلمات القادمة؟
لا ضرورة للجواب مادامت العربات السود قادمة وأنا أُريد الهدوء والتمتع بالمشهد. مشكلتنا، نحن قرويي الأصول، أبناء العشائر نصف المبادة، اننا نميل لحال الغصون المكسورة تطفو على الريح بثمار قليلة باقية.
هذا العيب رجّح الثقة بحامل المطرقة – نوع من الأمومة في القرار.
نعتز بمضمون نخشى ان يُعْلن ونطلق سراً نخاف عليه أن يعبر الطريق. أكبر منظِّرٍ للثورة وضعنا في الدرجة الثانية. نجهد في سلامة ما نريد ونتبرأ من المحنة بإحالتها لسوانا.
وحين نترك الفِلاحة التي ورثناها وتصير حرفتنا الكلمات، لا نعرف ماذا في البساتين ولا الحشودَ وضوضاءها. يقتصر همنا على المُزارع الذي ظل وحده في الحقل. وتصير حقائقنا في بيوتنا مثل بضائع مهرّبة بقاؤنا في فعلها السري. هكذا بدأت العزلة.
توالت هذه الإدانات حين مرت امامي جموع الفلاحين الفقراء، الذين كان بينهم اجدادي وأبي وأمي وأكثر من نصفي!
قصيدتي فيها مثل هذا التردد، مثل هذه الخيانة.
يوماً صوتُ معلمي صاح غاضبا في رأسي : الانتماء الكبير، روح الحشد والواجهات ولافتات المواكب ليست "موضوع الشعر الطارئ". شطب العبارة بالقلم الأحمر وكتب: انها سند عظيم للكتابة ومصدر أبدي للطاقة!
موجعٌ، مؤسفٌ منظر الشجرة المعزولة. هي لاتفرح بازهارها وبصمت تموت.
هذا كلام فلاحين رأيتهم أمس بالمساحي يرسمون وجوها متشابهة على كتفي الساقية. كانوا يعمّقون المجرى، كانوا يشقون الطريق للحياة!
مررت بزمن شرس، كان همي فيه ان اجد مخبأ حتى يمر الشتاء، ويمر الخوف. اوهمت نفسي ان النزهات والكمانات الراعشة ستُحضر لي فرحاً غائباً وان الحب قد حلَّ في نظرات الحرس.
لا جدوى من المهادنة. ظلوا اعداءً وبقيت مطارداً.
في تلك الايام المشوبة بالرصاص وحافات الانزلاق، كانت كل الدروب تصل الى المستنقع، وخطر الموت في اليابسة ونوح لا يملك فلكاً !
في تلك الايام انتشر وباء مخيف، صار الناس يستيقظون فلا يرون وجوههم في المرآة والألسن تتكلم بما يشتهي غيرهم، لم تعد ملكهم، وعلى رؤوسهم حيث ما ساروا ظل عمود.
في زاوية الحرج هذه رأيت هاربة مثلي ومثلي متباعدة عن حقيقتها. التجأنا الى بعضنا مثل بطلَي خرافة، مثل عاشقين في ملحمة منخوبة بعضُ ألواحها.
معجزةٌ ان أرى الضوء يأتي، معجزة ان أرى في مد القمامة والفوضى مخلوقة باهرة عيناها تريان كلَّ شيء فيَّ!
ابتعدتُ في ظلها عن خشونة الثكنات والمفارز، واقتربت الى الكراسات التي تحول قارئها في ايام الى جندي مجهول، او الى عبد مقتول في حقل. لكن مثلما الايام تمضي، ومثلما الاحلام ليست ملك أحد، ابقت في الروح فرحاً للطريق وغابت.
ولأنها كانت ترى كل شيء، ولكي لاتخسر، ولكي لا انسى، تسلّلت الى الذاكرة واطمأنت على املاكها قبل ان تغيب.
وهكذا علّق البرجوازي الصغير سترتَه على غصن شجرة وراح يحفر في المزرعة ليدفن افكاره، بعد ظنه انه نجا.
مرةً ، تحدث "هوغو" عن السيف والفأس والمقصلة وعن المشانق تصطاد الثائرين.
تمنى الانسانية حرةً .
تمنى خلاص الشعوب.
هذه الأمنية الدائمة، هذا المذاق اللذيذ المر، الذي ما فارق يوما خبزنا وأفكارنا، سبق ان قرأته في منشور سري ..
الحديث عنه، ليس كشقّ الطريق من اجله .
ان قناطر المستقبل تُبنى واحدة واحدة. وقناطر المستقبل تهدم واحدة واحدة .
وكلماتنا في العزلة متباطئة، كما المشاعل تخبو.
سلاما أيها الثائرون ، أقرّ بأننا خذلناكم ! ولكننا لم نكن سعداء في العزلة ولم تكن لنا نار في المنفى . كان الحزن يطفح من اشعارنا ونحن نرتعش أمام خيط الضوء الباقي ونسمع ثرثرة الشرطة عند الباب.
أُقرُّ .. ولكننا لم نبتعد. الحقيقة تعرف هذا. ووجهي على قضبان النافذة يتطلع الى "عالم آخر". لا أحتاج موعظة، لا ضرورة للّوم، فالدرس الاول في رأسي. ها أنا ألخصه بجملتين:
حب الحرية ميراث الناس أجمعين
وهي، لا غيرها ، وراء مجد افكارهم والفنون.
وحين تخبو هذه الشعلة وتشتد الحاجة للخبز، معنى هذا ان طاغية في الطريق.
الانسان في الحالتين ضحية.
من هنا جاء الوباء، اصاب الأفكار بالمنّ الابيض، تماما كما يُصاب الليمون، لم اجد اكثر من الماركسية اريحية، لم اجد اكثر منها اكباراً للانسان ومعرفة بمكانته على الكوكب. كل الاحاديث الاخرى نالت منه بالخوف او بتقليل الشأن أو بإثارة الغبار.
حين قرأت "سارتر"، رأيته يسهم في نصب العارضة في المنعطف الضيق. وكأن لم يكفِ الرعب الذي اشاعه اللاهوت ..
في ذلك الوقت افرحتني الدعوة لرفع الحواجز، الى مناخ بشري واحد. هي دعوة على أية حال ولكنها مفرحة. تعني انك لست وحيداً وان العالم كله وطنك. هذا يعني ان الشرطة لا تستوقف قصيدتي في الحدود ولا تطالبها بسِمَة ويعني سعة املاكي وان على البلاجات ناسا يعرفونني ويعني قراءة نصوص أخرى غير "الندم" و "الذباب".
والغريب ان هذا النزوع لم يغير المعالم، بل اني خلاف الظن، صرت ارى البرتقالة في بستاننا ليست البرتقالة على ضفة نهر آخر وشذى هذا التراب يختلف عن شذى التراب وراء البحار. يومها قال لي "لنكولن" .. "مثلما لك أم واحدة، لك وطن واحد." فاصابني الدوار. وجلست ثانية اتلقى تعاليم. يومها قال لي مكسيم غوركي : "تعال احدثك عن روسيا" اذن انا لم ابتعد، ولكن الفهم الآن صار حميما وصارت في الفراغ الجميل حياة.
في تلك الايام جعلتنا دروس الحب هدفا للرصاص او للإبادة. قلَّ العشاق الكبار اختفوا، واذا وُجِدوا فهم بعيدون عن الاسواق. اما نحن الذين كنا نسير قرب الحافات، فقد كانت المهانة على مقربة منا والحياة فجةً بلا معنى.
ايكفي هذا الاعتراف؟ كفى! احتملنا كثيرا من القسوة ولكن الحياة حياتُنا ونحن عنها آخر المدافعين.
كان موسماً غامضاً مزدحماً برؤوس حراب أو نُذر وكان حبّناعملاً باسلاً، نوعاً من النضال. كيف تحتفظ بأفكارك وتسلم بين قيامة من المحترفين الذين سعادتهم باطلاق النار؟
ونحن ما يزال الشعر اكثر من الدم في عروقنا. ساعة نعود رعاةً ونهنأ بجلسة آمنة في ظل، نتفقّد نباتاً وحيدا مثل ولد تائه يلوذ بالأحراش.
علاقتي بفتيان الشرف صارت مثل علاقتي بابطال الملاحم ، بعيدين في الميادين قريبين في الكتب. وحبيبتي غابت في الدنيا التي جاءت منها. بقي الامتنان وانتهى كل شيء مثل نزهة في الليل.