ينشغل غياث المدهون (1979)، في ديوانه "لا أستطيع الحضور" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، بالمعنى الوجوديّ للاغتراب. لكنّ الشاعر الفلسطيني السوري سرعان ما يحمّل الفكرة معانٍ سياسيّة، ليصبح الاغتراب الوجوديّ الذي يعيشه إنسان المنطقة العربيّة سياسيّاً في الدرجة الأولى.
يتجلّى هذا الاغتراب في معنى اللجوء الفلسطيني أوّلاً، وهو ما يحيل فوراً إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي، كمسبّب له. هنا، سنرى المدهون ينكّل بهذه "الدولة" سخريةً وتهكماً طيلة صفحات الكتاب. يكتب في قصيدة "نحن": "هناك شيئان يتوسّعان على حساب البيئة المجاورة؛ ثقب الأوزون وإسرائيل".
من جهة أخرى، يتوسّع اللجوء الفلسطيني حلقة أخرى، نراها في فكرة طلب اللجوء السياسي أو الإنساني في الدول الأوروبية: "نحن الذين نقضي عمرنا لاجئين، ونموت لاجئين، وحين نهرب من واقعنا إلى أوروبا بحثاً عن الحرية، نطلب اللجوء". وستتسع الحلقات وتكبر لتجعل من الإنسان، ككل، مجرّد لاجئ في هذا العالم.
يؤكّد الكتاب على مفصلية الثورة السورية، عبر توزعه على قسمين رئيسين: "ما قبل 18 آذار 2011"، و "ما بعد 18 آذار 2011"، تاريخ اندلاع هذه الثورة. "ما قبل"، قصائد شعرية نثرية بالشكل الذي اعتدناه من حيث التوزّع العشوائي للجمل على السطور. أما "ما بعد"، فنصوص سردية تحضر على شكل كتلة واحدة في الصفحة، وكأنّ القصيدة، بشكلها المألوف، لم تعد تتسع لما لدى الشاعر.
يذهب المدهون إلى منحى نقدي في الكتابة الشعرية. نرى ذلك في قصيدة "التفاصيل" التي تبدو فيها الكتابة الشعرية تحاور مفاهيم نظرية من تلك التي ما فتئ منظّرو قصيدة النثر يؤكدون عليها. لكنّ التفاصيل التي سال فيها حبرٌ كثيرٌ في السابق كانت تفاصيل حياتية، والفارق هنا أن الشاعر أخذها إلى مطرح آخر، لتصبح تفاصيل الموت، أو طريقة له: "ذلك الثقب الصغير/ المتبقي بعد مرور الرصاصة/ أفرغ محتوياتي/ لقد كان كل شيء يتسرب بهدوء/ الذكريات/ أسماء الأصدقاء/ فيتامين C/ أغاني الأعراس/ القاموس العربي/ درجة حرارة 37/ حمض البول/ قصائد أبي نواس/ ودمي".
عدم الحضور المعلن في العنوان، والذي يقصد الغياب عن دمشق أولاً، يكتسي بدلالات تتجاوز العلاقة مع المدينة إلى معانٍ تصل إلى درجة التماهي بها، فتحاول القصيدة التي تحمل اسم الكتاب تقديم كل مبررات الغياب عن دمشق، لكنها لا تنجح، حتى في مبرراته الفنتازية: "لا أستطيع الحضور، لكنني قادرٌ على الغياب، نعم، أستطيعُ الغيابَ بمهارةٍ عالية، وقد أصبحتُ محترفاً في الآونة الأخيرة، وصارَ لي أجندةٌ أرتبُ فيه مواعيد غيابي، وصارَ لي ذكرياتٌ لم تقعْ بعد".
هكذا، سنصل إلى أن الشاعر لا يستطيع الحضور فحسب، بعد أن ساق ألف سببٍ وسببٍ لذلك، وكلها لم تكن إلا ذريعة للكتابة عن دمشق.
- See more at: http://www.alaraby.co.uk/culture/f9e52994-1564-4c7a-96d5-c3b7336f56ed#sthash.l5DUxxBT.dpuf