إلى الراحلة المناضلة نهاية محمد :
لم أكن قد خرجت بعد منتصراً بي ، مثل كل الفلسطينيين ، من حرب بيروت التي انتصر بها الدم الفلسطيني على الحقد المقدس الخارج من تلمود شارون وصخبه ، ومكلوماً بي ، ككل أفراد العائلة الفلسطينية الكبرى ، من حرب طرابلس التي خاضها أخوة لنا ليدكّوا بنا حلمنا بالعودة إلى رائحة الكفاح المسلح التي لم ترها تعبق إلا في قمصان شهدائنا ، ومُكتملاً بنشيدي الطويل الدامي بي ، كجذور شجرة السلالة الفلسطينية العميق في الأرض وفرعها المزروع في السماء ، بعد حرب المخيمات ، أنا الخارج من حنكة مخيم السيدة زينب الفقير إلى الله بالتحايل على الموت ليقاضيه على بحياة تليق بذويه ، الداخل إلى مضارب المؤسسة الثقافية الفلسطينية ، رامياً خلفي غريزة العبث بالشعر والحياة كلها ، حتى دعيت إلى حرم المنظمة النسائية الديمقراطية لتقترح عليّ الرفيقات نهاية محمد وسوسن أبو شنار وانتصار مرعي إنجاز عمل " أثواب فلسطين في الشمس " الذي أصبح فيما بعد أول منجَزٍ من نوعه ، عرضناه بصوتي وبرفقة فربقة بيسان التي صدحت بالأغنيات ورجّت الأرض بالدبكات الفلسطينية على مسرح المركز الثقافي السوفيتي في دمشق الاي طمحت آنذاك أن تكون عاصمة ثقافة بعد سقوط بيروت ، يحمي الثوب الفلسطيني منذ نسجته ، بألوانه ومفردات الحياة كلها من طيور وأعشاب ورموز وصور ، أمنا الكنعانية الأولى ، في وقت سرقته مضيفات شركة العال الإسرائيلية ، ليلبسنه بنيّة محو علاقة هذا الثوب التاريخية بالمرأة الفلسطينية ، أمّ البدايات والنهايات .
لا أدري لم وثقن بي عمن سواي ، أنا الذي سقطت في روعي ، وهنّ يروين لي حكاية كل خط أو خيط أو رسم أوضربة إبرة على أثواب متعددة وغزيرة ومكثفة كالمعاناة الفلسطينية ذاتها .
معهنّ ، بل ومنهنّ ، تعلمّت تلمّس ماء الأسطورة الفلسطينية كلما مررت بأصابعي أو فكرتي على مفردة ينطق بها هذا الثوب ، او ذاك ، لأدرك أن كل شيء فيه يروي ، كبطل من أبطال الرواية الفلسطينية كلّها، فصلاً لا يتجزأ من ملحمة الإعتصام بالجسد الذي أصبح فكرته ذاتها ، و مصيره ذاته .
وبهنّ ، وكأنهن تلك الأم الكنعانية الأولى الممتدة في تاريخنا ونشيدنا الطويل ، الجميل حتى في مرايا أعدائنا ، أن المرأة الفلسطينية حارسة حلمنا الذي يطلّ على الأبدية .
كان امتحاناً عصياً ، أثواب فلسطين في الشمس ، صرت بعده غير ذاك الشاعر الشاب الذي يكتب القصيدة ، صارت القصيدة نفسها تكتبني برؤيا جديدة للإنسان والعالم ، لتصبح فلسطين كلها أمّ النشيد المفتوح على التراجيديا الإنساني في درب آلام يصعد به الفلسطيني أعلى الصلبان ، وحيداً في ملكوته يصنع للعالم الحياة كلها .
وكتبت قصيدة بهنّ نشرتها في الحرية عام ١٩٨٥ كما أذكر ، وشكلت فرعاً من شجرة عائلة ديوان " موتى يعدّون الجنازة " الصادر في دمشق ١٩٨٦ وفي الرباط ١٩٨٩.
" كنا أنا وأبو العليّ على الجدار كلطخةٍ من دم قديسٍ يشعّ
تسرّح الأمّات مع لوعاتهن صدى خطايانا إلى الله الذي..
لي الأرض يستغرنه من أجلنا
طوبى لهنّ
لسوسن الشنّار* تمسح عن جبينينا ذهول الموت
ثم تعانق ابنتها التي ارتجفت كقبّرة الحداد
بكحل دمعتها السحيق
وفوق أقواس ابتسامتنا تهيل الأغنيات لكي يحطّ بها الملائك
طافحين بما تبقى من سلام الأنبياء
ترتب الرعشات في أهداب روحينا
ونحن نعانق الشهداء كالعسل المذابْ
لنهاية محمد تحثّ على بطولتنا شطارات الرجال
لحمل نعشينا على الأكتاف شكوى أو دعاء
طوبى لهم
يتدفقون مع المسافة كي يعمّوا الأرض فينا
حين نوشك أن نقعْ
ويعاتبون دماءنا
ولأنهم سكبوا بياض الروح في الأنخابْ
لن نرتدي كالموت قبعة الغيابْ
وجاءني الرفيق محمد السهلي ، رئيس تحرير مجلة الحرية الآن وكان آنذاك مسؤول القسم الفني وأنا الثقافي في منظمة الشبيبة الديمقراطية بعد المؤتمر العام الذي رأسته الرقيقة نهاية محمد التي كانت ترأس كما أذكر إقليم سوريا ، ليخبرني أن الرفيق " أبو أمجد " ، زوج الرفيعة نهاية ونائبها كما أذكر ، يدعوك لفنجان قهوة ، وأضاف بفكاهة معهودة : " يمكن ليدعوك لمحكمة جبهوية لأنك كتبت عن الرفيقات وفي مجلة الجبهة ، وهذا يحصل لأول مرة في تاريخ المنظمة " ، وهناك تعرفت على هذا المناضل العصيٌ على الموت أو النسيان أيضاً . وكأنه سألني كقائد ، وكأنني أجبته كشاعر.
وكأننا التقينا بعد هذا ، وقد ذهبت إلى منفاي الطويل في موسكو ، لكنني أذكر ، حين انشقت الجبهة الديمقراطية على نفسها وخرج " فدا " وأنا معه من عباءتها ، وصرنا ، أنا وهما، نهاية وأبو أمجد، والسهلي معهما ، على فكرتين مختلفتين ، أذكر أنهما كانا والسهلي معهما يتعاطون معي كشاعر يلهث خلف رؤياه ليعيش فيها .
لا نفقد ، نحن الفلسطينيين ، أحداً منا ، مثل نهاية محمد ، إلا لنذكر بطولته في الرواية وقد تحررنا من بلاغة اللغة التي نصنعها لتسرد ملحمتنا بصيحتنا الكبرى .
شهداؤنا عند ربهم يرزقون ، ما يزالون يزوروننا ليتفقدوا حلمنا بالحياة كي نعود كاملي الأوصاف دون سوء إلى وطننا الأم ، فلسطين كلها .
* سوسن أبو شنار ، من أسماء مناضلاتنا الكبيرات و أمهات النضال النسوي الفلسطيني ، زوجة ورفيقة درب وحارسة حلم المناضل الفلسطيني الكبير صالح رأفت الذي ما زلنا أطفالا نردد النشيد به وله : يا صالح يا بطلْ كم مرة زرت المعتقل " . والشنار طير فلسطيني .