مع السماح عبد الله وديوانه تصاوير ليلة الظمأ
د. علاء جانب
أحيانا ترهق المثقف منجزات الحضارة والعلم الحديث ، وطريقته الجافة في التعاطي مع الظواهر الكونية، إذ يفهم الإنسان حقائق يتمنى لو ظل طيلة عمره لم يفهمها، ويقف على حقائق، يتمنى لو ظل عمره يستبقى تلك النظرة الطفولية البريئة إليها. الحضارة الحديثة بأضوائها، ومبانيها، ومصانعها، وقنابلها، وآلاتها الجبارة مرهقة، ومخيفة، ومزعجة.. كما خدمت.. هدمت وكما شتلت قتلت.. وكما أبدعت روعت..
وليس حقيقة أن الشعر-كما يقال- ضد العلم، فكلاهما نوع من تفسير الظواهر والوقوف عليها، غير أن الشعر يظل تفسيرا عرفانيا، روحيا .. ينأى بالأشياء بعيدا عن الجفاف والجبرية..
يحاول الشعر مس جوهر الحقيقة، والاحتفاظَ لها بمائها، ورونقها، وإبهارها، ونضارتها، معترفا بما لا يعترف به العلم من وجود قوى غيبية، تشعر الروح بوجودها، وإن لم تمسكها الأيدي، أو تدركها الحواس الظاهرة.
والطفولة والشعر والنبوة جميعا يخرجون من مشكاة البراءة، والنقاء، والتحديث بما لا تتعاطى معه العقول إلا بوصفه شيئا من الهرطقة، ولكن يثبت دائما أن شطحات الطفولة، ووحي النبوة، ورؤى الشعراء أقدر على توصيف المشكلات وتقديم الحلول العرفانية لها ..
الرؤيا عند السماح عبد الله تمتد أفقيا لتقف على منجزات الثقافية الأدبية العصرية، يتمثل ذلك في قراءاته الواسعة للشعر نقدا وإبداعا ، مما يظهر أثره جليا في الطرق التي يختارها لنفسه في الكتابة. فهو يبدو مرة تفعيليا ، ومرة شاعر نثر ، ومرة يبدو عموديا .. وهو في كل مبدع حر .. له أن يختار ما يشاء ..
كما أن الرؤيا عنده تمتد رأسيا لتتورك على منجزات العقل الإنساني على امتداد الحضارة الإنسانية بأيديولوجياتها المتباينة التي تتجلى في أساطيرها، وأشعارها ، وسيرها الشعبية، وحكاياتها المحلية.
**
فالمدخل التاريخي أحد المداخل المهمة في فهم تجربة السماح الشعرية، حيث تجد في تضاعيف هذه الإضمامة الشعرية ومضا تراثيا موظفا في النصوص توظيفا بديعا من ذلك قصة الطوفان التي يبدأ بها شرح أقوال المرأة القديمة.
والقصة هنا موظفة لتؤسس لفلسفة الاختيار، حين تكون الحلول متاحة، والاختيار أحد تجليات الحرية التى هي أحد تجليات الماء الذي يبحث الشاعر والقصيدة عنه في رحلة مضنية كما يبدو ذلك في ثنايا الديوان إذ الديوان تصاوير ليلة الظمأ.
والطوفان هو البلاء العام الذي ينبغي أن تستعد له الأمم بالحلول، أو قل بهيئات إدارة الأزمات .. وفي القصيدة يقدم الشاعر الحلول المتاحة حين يأتي الطوفان والتي تتمثل:
1- ركوب الرأس والعناد ولو كان فيه الهلاك ، لعدم وضوح الرؤية وانكشاف الأبعاد المنجية من الطوفان.
” آوى ابن نوح إلى قمة الجبل فلم يعصمه … ”
2- طاعة الكبير طاعة عمياء لثقتهم فيه، ونزولهم عند رأيه:
” وذووه حبسوا أنفسهم في سفينة مغلقة فلم يروا الماء ولا اليابسة …”
3- تصديق الخرافة، والثقة في الأحلام التي لا تجدي شيئا :
” وذات الضفائر المجدولة صدقت نبوءة رجلها الهارب من البوابة المعرجة إلى الكوخ المتدرج قال لها : حين يجيء الطوفان أغمضي عينيك ، وافردي يديك على اتساعهما وثبتي رجليك في المكان الذي لقيتك فيه آخر مرة بين العشب والسماء واحلمي بي .. فأكلها الماء…”
4- وأخيرا يبقى الاختيار المؤسس على الحرية التي تجعلك تتعامل مع المشكلات على أنها أحد تجليات المتعة .. وهو اختيار القصيدة التي تقول :
” أما أنا .. فقد تعلقت في شجرة .. كانت المياه تعلو بي فأتشبث بأطراف أصابعي بالخشبة الشجرية وأرى هيولى الفيض يدغدغ خدي وشعري فأتذكر زحف جداتي عاريات إلى السواحل الخرافية .. وتهبط المياه بي فأعلو الخشبة بفخذي المبللتين وأرى هروب السمك من الماء إلى الماء فأتذكر سفن الشبق الرحالة بالعشيقين العرايا..”.
وواضح أن الشاعر حين استلهم قصة الطوفان لم يعتمد القرآن الكريم وحده، مصدرا من مصادر المعرفة، ولكنه قرأها في مظانها من الكتب التي تناولت القصة بوصفها أسطورة إنسانية تنوعت النظرة إليها، وتعددت قراءاتها …
لكن الأوضح في نفسي أن الطوفان نبوءة شعرية .. لعل أهم تحققاتها ثورة الخامس والعشرين من يناير التي قاومت طوفان البغي والظلم ، بطوفان مضاد فحولت الطغاة هذه الكائنات الخرافية على حد تعبير أحمد عبد المعطي حجازى إلى وحوش هزلية في أقفاص كتلك التي نراها في حديقة الحيوان .
ومن الملامح التراثية في هذه الإضمامة الشعرية أيضا توظيفه لحادثة من السيرة النبوية ، وهي حادثة هرولة السيدة هاجر – على نبينا وعلى آل إبراهيم السلام- بين الصفا والمروة باحثة عن الماء .. ولعله كان من الغريب أن يمر الديوان دون أن يتعرض لهذه القصة التي تعد أقرب الرموز التي تجسد رحلة الإنسان في البحث عن الحياة التي يمثل الماء أساسها وهيكلها ..
وليس التراث الإسلامي والعربي فقط هو ما يظهر في تشكيل الصورة الشعرية عند السماح بل نجد التراث الفرعوني أيضا يتغلغل فيها فيظهر عندما تتحدث القصيدة / المرأة القديمة التى تجد نفسها بعد رحلة البحث عن الذات في حيطان معبد أخناتون ، وحين هيأوها كأحلى عروس للنيل، الذي لم يعد لديه شهوة للعذراوات في أسطورة عروس النيل ، وكذا في حديثها عن إخناتون ورع والكهنة والمعبد .. مؤكدا على اعتزازه بالمكون المصرى في شخصه وثقافته .
ويظهر المكون القرآني في بعض تركيباته حين يصف الماء بأنه :” ماءٌ حلالٌ.. مغتسل بارد وشراب” والجملة الأخيرة بعض الآية الثانية والأربعين من سورة ص .
وفي رحلته البحثية عن الذات أو قل رحلة القصيدة إلى الحقيقة يذكر نكبة الرشيد للبرامكة، فتتوحد القصيدة أو المرأة القديمة بالبرامكة، حين تقول :” ويلاحقني معهم ويتوعدني بسيف مسرور فأهرب مع زرياب الأسود إلى المغرب العربي ومنه إلى الأندلس “… صانعا بذلك معادلا موضوعيا لتجسيد الخصام بين المثقف والسلطة .. لاحظ سيف مسرور .. والأخذ من ألف ليلة وليلة ..
فهذا السطر الشعري يختصر ثلاث حكايات كل واحدة منها ملحمة قائمة بذاته كتبت فيها صحائف من كتب التاريخ ..
حكاية البرامكة مع الرشيد ، وهي قصة طويلة … مؤداها أنه ترك لهم حرية الحكم في البلاد اعترافا بأستذتهم له ، متعلمه بين يديهم ، فظنوا ذلك منه ضعفا ، وراحوا يتطاولون عليه فنكبهم نكبة ، لم تقم بعدها لهم قائمة..
حكاية مسرور السياف الذي هو خادم شهريار في ألف ليلة وليلة ، وهو عدو النساء اللدود ، لأن بسيفه كانت تقتل كل يوم عروس .. بسبب هذا العنين شهريار
ثم حكاية رحيل زرياب المغني إلى بلاد المغرب ثم الأندلس ، هربا من بطش الحاكم في الدولة العباسية ..
وحين يلقى عصا تسياره في بلاد الأندلس نجد التراث الأندلسي وشعره حالين من التجربة السماحية محلا حيث تلوح القصيدة لابن زيدون متوحدة مع ولادة لذا نجد ابن زيدون يناديها يا بنت المستكفي .. ثم يتناص السماح مع ابن زيدون مقتطعا من قصيدته …” إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا .. والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا .. وللنسيم اعتلال في أصائله .. كأنما رق لي فاعتل إشفاقا ..”
فتكتب له بدورها : أنا والله أصلح للمعالي …. ”
وهي مقتطعات من شعر ابن زيدون وولادة الحقيقيين.. يتناص معه الشاعر السماح عبد الله في شيء من المكر الشعري الذي لا تستبين فيه تلك الخفايا التي تتواحد فيها النصوص .
ولم يترك الشاعر حتى الأساطير الشعبية ، وما يفعله الناس في بعض قرى الصعيد إلى اليوم حينما يريدون التخلص من بعض الحيوانات التي تزعجهم فيغمون عينيها، ويربطون فيها “صفيحة” معدنية ثم يضربونها فتجري، وكلما جرت زاد صخب الصفيحة حيث تصطدم بحجاورة الطريق والصحراء .. فتظل تجرى خائفة من هذا الصوت إلى يتوقف قلبها …
يقول الشاعر :” وكتفوني بالحبال المجدولة، وأودعوني هودج ناقة عمياء، وظلوا يضربونها بالحجارة والعصي والصراخ حتى انطلقت تجري، يمينا ويسارا بلا حاد ولا هدف إلى أن نفقت في عماها جائعة صادية وحيدة وتدثرت بالخيام…”
ولا أدري -على بُعد العلاقة- لماذا أجد فيَّ إحساس الشاعر هنا بالحيوان الأعجم ما كان يجده الشاعر العربي في إحساسه بحيوانه، بل وجعله معادلا موضوعيا له؛ كما هو عند المثقب العبدي في حديثه عن الناقة:
إِذا ما قُمتُ أَرحَــها بِلَيلٍ تَأَوَّهُ آهَــةَ الرَجُلِ الحَزينِ
تَقولُ إِذا دَرَأتُ لَها وَضيني أَهَــذا دِيــنُهُ أَبَداً وَديني
أَكُلُّ الدَهرِ حَلٌّ وَاِرتِــحالٌ أَما يُبقي عَلَــيَّ وَما يَقيني
أو عنترة حين يقول :
ما زِلتُ أَرمـيهِم بِثُغـرَةِ نَحـرِهِ وَلَـبانِهِ حَتّى تَسَربَلَ بِالدَمِ
فَاِزوَرَّ مِـن وَقعِ القـَـنا بِلَبـانِهِ وَشَـكا إِلَيَّ بِعَبرَةٍ وَتَحَمحُمِ
لَو كانَ يَدري ما المُحاوَرَةُ اِشتَكى وَلَكانَ لَو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلِّمي
ثم تستمر المرأة القديمة/ القصيدة باحثة عن الذات، من خلال دورتها بين العصور، الفرعونية والجاهلية، والإسلامية ، والأموية، والعباسية ، والأندلسية ، والفاطمية، والأيوبية، والمملوكية.. وكل من يراها يحاول القبض على سرها .. الغامض الذي تحتفظ به في حُقِّها المغلوقِ ولكن هيهات..
:” وكان السقاءون والمكاريون والسحَّابون ، والخصيان يخلعون خواتمهم ويلقونها على الحق المغلوق حين يرن … لعنة الله عليهم جميعا .. لم يعرفوا أن الماء قصدي”.
**
وهناك مدخل أراه مهما أيضا في فهم التجربة السماحية، وهو المدخل الأسطوري، ولا أقصد هنا التفسير الأسطورى للشعر، الذي نادي به نصرت عبد الرحمن أو مصطفي ناصف أو على البطل وغيرهم .. ولكن أقصد أن السماح عبدالله في صورته الشعرية يقصد إلى شيء من الهالة والإبهار يلفع به صورته الشعرية، حتى تبدو أقرب إلى عبارات الكهنة..
وكأنه يطلب من المتلقى حين يقرأ أن يعيش بوجدانه تلك الصور، وأن يتخلي عن قواعد العلم، وبروده وجفافه.. هو يريد أن يقول إن هذه الصورة مقدودة من طينة البدء ..
فيها دهشة الإنسان الأول حين ذاق أول شواء، ورأى أول سمكة، أو وقعت عيناه في عيني امرأة جميلة يراها لأول مرة …
الجملة المبنية بناء أسطوريا إذن هي ما قصدت إليه ..
كما نجد : في عباراته : النار المبهرجة – النار الحلال – وكما يبدو في أسما من قتلوا المرأة القديمة: العابر ذو الفراشات – المائل الذي لا يريم – الهارب وراء أشباحه – ذو الجِلال- ابن القصاب والقصابة – المنذور للرياح الدوارة – .
وكما يبدو أيضا في أسماء من قتلتهم هي : الطواف ذو البروق – قاطع أشجار الغابات – خباط تمر النخل – المطرود من ذكرياته – ربيب الحطاب والحطابة – المعلق من سقف أحلامه .
والعبارات –المؤسطرة- هذه ، تمنح الصورة التي تبنيها شيئا من الإبهار والدهشة، وتلفعها بغير قليل من الفتنة، والإثارة؛ تأمل معي هذه الصورة وراقب عباراتها يقول الشاعر:
“وعندما تدور التفاح في أعطافي، وقرصني الحب .. كانت -أمي- تضعني في قارب بالكاد يتسع لاثنين، وتستأجر لي أحد الغرباء تمدده بجواري في متن القارب، وتقرأ علينا بعض التعاويذ، وترشنا بالعسل، والبخور والصندل، وتقول لله: يا الله.. هذه أمتك الصغيرة.. مهيأة تماما لكل قطرات الفرات.. فكن معها، هي وهذا الغريب الذي لا بيت له ولا ناس، وأبعد عنهما أبالسة الماء، المنقرين في خرائب الترائب، وقرب منهما رائحة الثمرة المحرمة المهيجة للصلب وارع الأسماك الجوّابة حولهما لكي ترعاهما.. هما لك وللفرات.. هما لك وللفرات.. ثم تجر القارب برفق وتدفعه برفق، وتهمس له بكلمات صغيرة برفق .. حتى يحمله التيار ويسير به وبين الموجة والموجة كنت ألمحها وأنا في شهقة المناورة وهي تلوح لي …..” .
والشاعر تدعيما لهذه الرؤية ينثر في تضاعيف ديوانه قاموسا شعريا ، وتركيبيا خاصا شديد الخصوصية، يعمد فيه إلى الألفاظ التي تداعب الحواس مثل:
الدغدغة ، واللمس ، والحك، والبلل، والشبق ، والقرص ، والحلمات ، والنهدان ،
والأفخاذ ، والسرة ، والبطن.
**
والشاعر “صاحب مزاح” .. وأعني بالمزاج هنا ما تعنيه العامية المصرية حين يكون المزاج معادلا للأسلوب، أو الطريقة؛ حيث نجد المرء ذا رغبة في الاستمتاع بما يفعل، ويقول، ويلبس، ويطعم، ويشرب، وهي ظاهرة تصاحب السماح في جملته الشعرية فهو مفتون بشعره، نرجسي في تشكيل صورته ..
فهو حين يتتبع لا يتتبع الماء.. ولكن يتتبع “حواف الماء” ، وهو حين يتحرك لا يتدفق .. ولكنه “يتسحب” ..ص 18
يقول : أو تقول القصيدة :” وكنت حين أرى الرجال مصلوبين كالتماثيل أكشف لهم نهدي َّ وفخذي ، وسرتي وأعدهم بالقمر الفضي مبلولا بحنين العشاق” ص22.
وحين تلامس حلمتا المرأة الماء .. لا تلامس الماء مباشرة .. ولكنها ” تلامس حنان الماء “حين يقول : وأنا أحوطه بيدي وأقول له زم .. زم .. وأنبطح على ركبتي ومرفقي؛ فيتدلى نهداي وتلامس الحلمتان حنان الماء..” . ص 23
وحين يعبر عن البحر لا يجعله أمواجا بل يجعله قطرات : فأترك المدينة المنورة تلك التي ليس فيها بحر تنادي قطراته جسدي..” 39
الشاعر مغرى بالتبختر في فراديس يصنعها من اختراعه لعلاقات جديدة بين الكلمات ، وهو معني بالحركة ، بنقاط التحول في الإحساس ، فهو يرتب نتائج على مقدمات لا يربطها بها جدل منطقي ، كما نرى في تلك الصورة :
” وأمد أصابعي من تحت الستار المزركش واقرص فخذه فتزداد دموعه ، ويمد أصابعه ويقرص سرتي فتنفض حلمتاي “. 41 .
فما العلاقة بين قرصة الفخذ زيادة الدموع ؟!..
**
وفي المرأة الرقاصة يقدم السماح تفسيرا للرقص بوصفه فنا صوفيا ، على إيقاع القصيد ، حين يصور وجد الرقاصة ، وهيامها الذي يعرج بها إلى مقام الفرق بعد الجمع كما هو معروف عند أهل التصوف .. عندما تسكر هذه الرقاصة بدق الداقين فينهض جسمها وحده ويتركها وحدها ..! أرأيت كيف يصبح الجسد هنا بفعل الرقص أخف من الروح ؟! أهو الهيام في القصيدة إلى حد التماهي .. ؟
**
وفي المحفوفة بدماء الآشوريين يقدم لنا السماح عبد الله نموذج القصيدة الأثيرة لديه .. فلا يجب أن ننخدع بالمعنى الأول الذي تمنحه لنا القصيدة ، إنه يدعو إلى الحرية في فتح آفاق من التأويل والإسقاط والسبح في قراءات متجددة للقصيدة يقول :
:” فلا تصدق كلامي الواضح .. وصدق كلامي الغامض .. وإن حمل كلامي معنيين أحدهما بين أصابعك والآخر لا تبصره عيناك .. فابحث أيها اللغوي المتمرس عن معنى ثالث أنا أعنيه وأنت تعرفه … “.
إن عبارة أنا أعنيه هنا تقول إن كل ما يمكن أن يقرأ به شعري فكلماتي تقصده فلا تتحرج أيها القارئ من فتح الأبواب المغلقة.. فهل الكلام الغامض هو هذا الذي قصدته الفراتية حين قالت:”ووشوشت في أذني بكلام ظللت أحفظه إلى الآن أردده بين حافة الليل وحافة الليل .. ولا أعرف معناه”.. ص70،71.
أهي الكلمات التي وصفها الشاعر بأنها :” الكلمات الموشوشة الكلمات التي تتوالد في ذاكرتي بلا معنى ولكنها حنون ..” 72.
**
وفي الخوافة من القاطرات يقدم الشاعر طرحا يضع من خلاله الشعر والطبيعة في مقابلة المدنية والآلة، فالرحالة:”عندما ركبوا القطارات جفت عروقهم ويبست أحلامهم ولم تعد عيونهم تلمع..”ص80
” صاروا كالموتى وصرت أتطير من زعيق المحطات كل قطار يمر علي يختطف أحد رجالي ويقتطع حفنة من شَعري ويصحر قطعة من البحر .. كنت أزعق وراءه كلما مر .. : يا قطار اذهب إلى الشمس اذهب إلى جبال وحيدة اذهب إلى خشب الغابات وخذ معك الغبار كله والمواعيد الكاذبة وأسلاك الكهرباء ودع لي ضفائرى ، ورجالي وحنان بحري .. كنت أقذفه بالحجارة والعصي وأشيعه باللعنات ….”83.
وكل ألقاب المرأة فيما أرى هي ألقاب للقصيدة السماحية .. فهي القديمة التي تضرب بجذورها في التراث وهي الورقية ، التي تملأ بتجلياتها آلاف الأوراق منذ القدم إلى الآن ، وهي الشيعية ، النائحة على المصير الإنساني تبكيه بصدق كما يبكي الشعية الحسين/ وهي المحفوقة بدماء الآشوريين .. لا يمكن أن يصل أحد إلى سرها وهي الفراتية عذبة الطعم.. وهي البدائية الساذجة الخوافة من القاطرات وهي ذات الخلاخيل والحلقان .. هي الأنثى فى جمالها وفتنتها .. وهي عياشة وراغدة وبشرى والسارية .. والتي لا يمكن لأحد أن يقبض على سرها كله .. لذا فهي تطلب من الشاعر صاحب الأناشيد أن لا يتبعها حتى لا يتعب روحها ..
وأخيرا .. فالديوان ممتع والتجربة ممتعة ، تقدم الديوان تجربة رحلة القصيدة في الأزمنة والأماكن ، والأساطير …
والديوان يؤسس به صاحبه لمشروع إبداعي يعتمد – في رأيي- على أركان أربعة:
اعتماد الإبهار في العبارة والمشهد آلية للتأثير على القارئ، وهو ما عنيته.
العناية بالحركة والتحولات وخرق السائد والثورة عليه.
اختراع علاقات جديدة للكلمات للتأسيس للصور الجديدة.
الاتكاء على التراث بوصفه رافدا ثقافيا ، والدعوة إلى الاتصال به، وعدم القطيعة معه.