شوقي بزيع 

أعترف بداية أن هذه التحية التي أعدت على عجل لصديق ومفكر ورجل دين تنويري بحجم السيد هاني فحص لا تملك من الوقت ما يكفي لاختزال صاحب «خطاب القلب» في كلمات قليلة، أو للتخفف من عبء ذينك الحب والتقدير اللذين يتوزعان رؤيتي إليه. وأعترف أن الكتابة عن صديق حميم يرقد وحيداً ومهيضاً في غرفة العناية الفائقة، ولا يكاد القسم المعافى من رئتيه يتسع لحاجته من الهواء، إنما هي أمر بالغ الصعوبة ومدعاة للكثير من التردد والحذر. إذ في أي خانة ستضع ما تكتبه والأوان ليس ملائماً للقراءة النقدية المعمقة في نتاج السيد، ولا للاستسلام لنبرة الأسى ذات الشبهة الرثائية، ما دام الرهان على صلابة الرجل المقاوم وعشقه الدائم للحياة لا يزال في مكانه تماماً. لن تقع الكتابة إذًا سوى في خانة واحدة هي الحب، وفي مربع واحد هو العرفان. وربما كذلك نوعاً من شد العضد والأزر، والدعاء بالشفاء لذلك الذي مكننا من الفصل بين الدين والتعصب الأعمى، وبين رجال الدين ومحاكم التفتيش.
منذ قدومه من النجف قبل أكثر من أربعين عاماً رسم السيد هاني فحص، كما رفيقه وتوأمه السيد محمد حسن الأمين وقلة آخرون، صورة لرجل الدين جديدة وغير مألوفة. فهنا لا مكان «للتهويل» الناجم عن ادعاء الاتصال بالغيب، ولا للقتامة المفرطة التي رأى فيها الكثيرون عدَّتهم الملائمة للاستحواذ والسطوة الجسدية والنفسية، ولا لإحاطة الجسد الديني بهالة من التغريب والاستبعاد تسندهما العمامة والجبة السوداوان، وترفعهما إلى حدود التجريد والتنصل من الأرض. لا بل كانت الصورة التي قدمها السيد قائمة على المماهاة شبه الكاملة بيننا وبينه، أو قل بين الديني والدنيوي. فهنا يمكن لرجل الدين أن يأكل ويشرب ويلهو ويضحك ويقهقه مثلنا تماماً. ومثلنا يشغف بالنساء، ولو بشيء من الرغبة المقننة والتلذذ الخفر بالجمال. ومثلنا تماماً، نحن الذين تخرجنا للتو من الجامعات، يعشق الشعر والرواية والفن ويقرأ السياب وأدونيس ولوركا ونيرودا وأراغون وعشرات غيرهم.
وإذ أقول مثلنا أعرف أن شيئاً من النقص في التواضع يشوب المقارنة. صحيح أن بعضنا احترف كتابة الشعر والبعض الآخر ذهب إلى الرواية والمسرح والرسم، ولكن السيد هاني لم يتردد في الهجوم على الحياة مثل «راجمة» كاملة من المشاريع والمواهب. فهو لم يَرَ في رجلِ الدينِ الناسِكَ والواعِظَ والمؤدّي الفرائضَ والعباداتِ فحسب، بل رأى فيه شعلة التنوير والحاض على التغير والمنخرط في ورشة التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية. ومنذ عودته من النجف لم يعد بمستطاع أحد أن يفصل مسيرة السيد هاني الشخصية عن مسيرة العالم من حوله، ولا عن الشأنَين الوطني والقومي. فهو حاضر ليقود تظاهرات مزارعي التبغ في النبطية، وليشهد على دم حسن الحايك ونعيم درويش النازف بين أقلام المرارة والقهر عام 1973. وهو حاضر ليخوض مرتَين اثنتَين معركة فاشلة للوصول إلى الندوة النيابية التي لا تتسع قاعتها لشخص بمواصفاته وطهرانيته. وهو حاضر ليلبي، عبر حركة «فتح» في سبعينيات القرن الماضي، نداء العودة الشاقة إلى فلسطين. وهو حاضر ليؤسس مع العديد من المبدعين من مجايليه «منتدى أدباء الجنوب»، قبل أن تعصف الحرب الأهلية بكل حلم ثقافي مماثل. وهو حاضر للإسهام الفاعل في الحوار الإسلامي المسيحي كما في «المؤتمر الدائم للحوار».
لقد بدا السيد هاني فحص طيلة عقود أربعة أيقونة حقيقية من أيقونات الحلم اللبناني الأصفى. وحيث كانت الأصوليات تذر قرنها في كل زاوية وصوب، والوحوش تربي أنيابها تحت فرو المذاهب الزائف، كان صاحب «ماض لا يمضي» عابراً حقيقياً للطوائف والمذاهب والإثنيات والكيانات الهشة. ولأنه رأى في الإنسان حالة من أحوال الطير الذي يطير بجناحين اثنين هما العقل والحرية، فقد ترك وراءه كل ما يشي بالتخلف والخرافة والعبادة الطقسية، واعتنق التنوع والتعدد وتشعب الطرق إلى الحقيقة. وهذا الشغف بالحرية والتنوع هو الذي دفعه للقول بأن لبنان لا معنى له بلا مسيحييه. وهو الذي جعله يعشق الاختلاف، حتى داخل المذهب نفسه، بوصف الورود المتنوعة هي التي تصنع أجمل الحدائق. ورغم كثرة أنشطته والتزاماته وأسفاره، فقد وجد السيد هاني الوقت الكافي ليصدر أربعة عشر كتاباً في السيرة والسياسة والفكر والاجتماع، بدءاً من «أوراق من دفتر الولد العاملي» وليس انتهاء بأعمال من مثل «تفاصيل القلب» و«الهوية الثقافية» و«كتابات». أما عنوان كتابه الأخير «أقترض الشعر ولا أقرضه» فليس سوى محاولة فاشلة لحرف الأنظار عن شاعرية السيد التي نتلمس لمعانها وتجلياتها في لغته النضرة ذات الانسياب المائي، وفي طراوة عباراته وتفتحها تحت أكثر النسائم رقة وعذوبة. وحيث لم يكتب السيد الشعر والرواية بشكلهما المألوف والواضح، فقد توأم عبر نصوصه المفتوحة بين رشاقة السرد الروائي وبين التشكلات الراعشة للخيال الغائم. ورغم تنوع قراءاته واتساع تحصيله المعرفي الموزع بين الماضي والحاضر، أو بين التراث والحداثة، فإن لغته لم تجنح إلى التأليف الذهني البارد والتعسف، بل وجدت مصادرها في بروق الأماكن الأولى، والأزمنة التي تمت خسارتها، والينابيع الطرية للطفولة الغائرة.
في هذا الزمن المسربل بالسواد والكراهية والرؤوس المقطوعة يبدو وجود السيد هاني فحص، كما السيد الأمين وأمثالهما، أكثر من ضروري لإنقاذ الدين من أنبيائه الكذبة ودجاليه الدمويين. ويبدو وجوده ضرورياً لمنع التشيع من التخثر والتصحر والاستسلام لنشوة السلطة، ولإعادته إلى نصابه الحقيقي المتصل بالتأويل والاجتهاد والاعتراض على السائد وصياغة المثال الأرضي.
يا سيد هاني. لا تصدق الأبواب المواربة للغياب، ولا رقة الوحوش المخادعة التي تخفي أنيابها وراء بياض السرير. لا تصدق الضمادات والأنابيب وآلات قياس الضغط والتنفس ونبضات القلب. صدِّق تضرعات أم حسن ووجهها الأصفى جمالاً من الحور العين، صدق الرواق الطويل المفضي إلى غرفة العناية والذي لا يبارح مقاعده حسن وريا وبادية وزيد ومصطفى، والمئات من أصدقائك و«معجباتك» ومعجبيك الكثر.
يا سيد هاني. لا يحتاج الأمر إلا إلى خطوة واحدة لكي تفتح الباب، باب الحياة الأبهى، وسترانا جميعاً بانتظارك.