مقاطع من رواية باتريك موديانو الأخيرة:
"مقهى الشبابالضائع"،
الصادرة عن دار مقاليد (الملحقية الثقافية السعودية!)،
ومن ترجمة محمد المزديوي
في هذا المساء، كنا كمِثْل من يحضر حفلة استحضار للأرواح. كنا مجتمعين في مكتب غي دي فير وكان قد أطفأ المصباح. أو ببساطة، حدث انقطاع للتيار الكهربائي. كنا نسمع صوته في الظلام. وكان يتلو علينا نصا كان سيقرأه عليما لو كنا في الضوء. ولكني لست عادلة، إذْ كان غير دي فير سيكون مصدوما لو أنه سمعني أتحدث عن موضوع "الطاولات الدوّارة". إنه يستحق أفضل من هذا. كان سيقول برنة فيها عتاب رقيق: "هيّا ! يا رولاند..."
أوقد شموع شمعدان كبير مشعب كان يوجد فوق الموقد، ثم جلس، من جديد، خلف مكتبه. وكنا نجلس على المقاعد المقابلة له، هذه الفتاة وأنا وزوجيّ في الأرٍبعينات من عمره، وكان الزوجي في هندام جميل وملامح بورجوازية، وكان لقائي به، هنا، لأول مرة.
أدرت وجهي نحوها، فالتقت نظراتنا. كان غي دي فير لا يزال يتكلم، صدره مائل، بشكل خفيف، ولكنه طبيعي، تقريبا برنة حديث مألوف. في كل اجتماع يقرأ نصا يقدم لنا، لاحقا، نُسَخا مستنسخة. احتفظتُ بنسخة هذا المساء. كانت عندي نقطة مَعْلَم.أعطتني رقم هاتفها وسجّلته في أسفل الورقة، بالقلم الأحمر.
"أقصى درجة في التركيز يتم تحقيقها والمرء نائم والعينان مغمضتان. ولدى أدنى تمظهر خارجي، يبدأ التشتت والانتشار. عند الوقوف، تنزع السيقان جزءا من القوة. العيون المفتوحة تخفض من التركيز..."
استطعت بالكاد أن أوقف قهقهتي، وأتذكر ذلك لأنه لم يحدث لي من قبل أبدا. ولكن ضوء الشموع يمنح لهذه القراءة مهابة كبيرة. كان نظري يلتقي كثيرا نظرها. ولم تكن لها، فيما يبدو، رغبة في الضحك. بل العكس، كانت تبدو في بالغ الاحترام، بل كانت قلقة لأنها لم تكن تفهم معنى الكلمات. انتهى بها الأمر إلى أن تنقل إلي هذه الرزانة. شعرتُ الخجل تقريبا من ردة فعلي الأولى. بالكاد جرأت على تخيّل الإرباك الذي كنت سألقي به لو أنني انفجرت ضاحكا. في نظرها كنت أعتقد أني رأيت طلبا للنجدة، تساؤلا. هل أنا جديرٌ بالتواجد معكم؟ شبك غي دي فير أصابعه. بدأ صوته يكتسي رنة خفيضة، وكان يثبّتها بعينيه كما لو أنه لا يتوجه بالحديث إلا إليها. كانت متحجرة من الأمر.